محمد أرسلان علي
لطالما شكّلت الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط نموذجًا صارخًا للتحكم الممنهج في المجتمعات، حيث حولت الشعوب إلى كيانات استهلاكية تسير وراء الشعارات البراقة والخطابات الرنانة، دون وعي حقيقي بحقوقها أو دورها في صنعِ القرار. هذه الأنظمة، التي لعبت على وترِ النزعات الدينية والقومية، نجحت في خلق انقسامات عميقة بين المذاهب والقوميات، مُستخدمةً سياسة “فرّق تسد” لضمان بقائها في السلطة، ولكن كيف يمكن الخروج من هذا المستنقع؟ وكيف يمكن نشر الوعي المجتمعي وفق أسس علمية بعيدًا عن التعصّب؟ سؤال لا بد لنا أن نطرحه على أنفسنا، إن أردنا الخروج من الحالة التي فيها ندور في حلقة مفرغة فيها، ثمة خطوات لا بدَّ لنا من القيام بها على وجه السرعة وعدم التلكؤ، لأن الوقت سيُقطِّعنا إرباً إن لم نُقطعه أولاً، ما يدعونا للقيام بهذا الأمر هو ما نراه ما أفرزته الأزمة السوريّة بعد العقد والنيّف مما يمكن تسميته بـ “الثورة” مجازاً، حيث إرهابيو الأمس باتوا يتبؤون سُدة الإدارة، وهي الصدمة التي لم نستوعبها إلى الآن، إنها بحق الفوضى بكل ما للكملة من معنى، الفوضى التي لا نتحكم بها أبداً، بل هي التي تتحكم بنا وتوجهنا كيفما تريد أو يريده من صنع الفوضى ووصفها بالخلّاقة، لكل شيء سيّد أو رب، وللفوضى سيدها الذي يتفنن في فرضها علينا، إنه عصر التفاهة، الذي أنتجته الفوضى الخلاقة. وللخروج منها ينبغي السير ببعض الخطوات المهمة، والتي يمكن إيجازها كالتالي:
- تفكيك الخطاب الاستبدادي:
الخطوة الأولى نحو التحرر تكمن في تفكيك الخطاب الاستبدادي الذي تروّج له هذه الأنظمة، هذا الخطاب يعتمد على إبقاء الشعوب في حالة من الجهل والخوف، مما يجعلها عُرضة للتلاعب، ويجب العمل على تعزيز التفكير النقدي لدى الأفراد، وتشجيعهم على طرح الأسئلة وعدم قبول أي معلومات دون تمحيص، فالتعليم النقدي هو السلاح الأقوى ضد الاستبداد، وجعل الفلسفة أسلوب وسلوك حياة، وليس كمادة يتم تدريسها في المدارس.
تعزيز التعليم العلمي:
التعليم هو المفتاح الأساسي لتحرير العقول، ويجب أن تُركز المناهج التعليمية على تعزيز التفكير العلمي والمنطقي، بدلًا من التلقين والحفظ. تعليم العلوم الإنسانية والاجتماعية بمنهجية نقدية يُساعد في فهمِ التعقيدات السياسية والاجتماعية، ويخلق جيلًا قادرًا على تحليل الواقع بعيدًا عن العواطف والانحيازات.
-بناء مؤسسات مجتمعيّة مُستقلة:
المجتمع المدني يلعب دورًا محوريًا في نشرِ الوعي ومواجهة الاستبداد، فيجب دعم وتأسيس مؤسسات مجتمعية مستقلة تعمل على تعزيز الحوار بين مختلف المكونات الاجتماعية، وتشجع على التعايش السلمي بعيدًا عن العصبيات المذهبية والقومية، هذه المؤسسات يمكن أن تكون منصات للتعليم والتوعية، وتعمل على بناء جسور الثقة بين الجماعات المختلفة.
-استخدام التكنولوجيا لنشرِ الوعي:
في عصر التكنولوجيا، أصبحت وسائل التواصل الافتراضي والمنصات الرقمية أدوات قوية لنشر الوعي، فيمكن استخدام هذه المنصات لنشر الأفكار التحررية، وتعزيز الحوار بين الشباب، وتوفير مصادر معلومات موثوقة تساعد في كشف زيف الخطابات الاستبدادية، كما يمكن إنشاء منصات تعليمية إلكترونية تُقدّم محتوىً علميًا وثقافيًا يساهم في تنوير العقول.
-تشجيع الحوار بين الأديان والمذاهب:
لعب الأنظمة المستبدة على الوتر الديني والمذهبي أدى إلى تفاقم الانقسامات، لذلك، يجب العمل على تشجيع الحوار بين الأديان والمذاهب، وتعزيز قيم التسامح والتعايش. هذا الحوار يجب أن يكون مبنيًا على أسس علمية وموضوعية، بعيدًا عن التعصب والانحياز، فالمؤتمرات والندوات التي تجمع ممثلين عن مختلف الأديان والمذاهب يمكن أن تكون خطوة مهمة في هذا الاتجاه، وللقيام بهذه الخطوات لا بدّ من تقاربات نقديّة بنّاءة للموروث الديني الذي يُقيّد المجتمعات والشعوب ويجعلها أسيرة له. ينبغي القيام بثورة ذهنية ودينية وإرجاع الدين لذاته وماهيته بعدما تم إفراغه من جوهره المجتمعي وتحويله لوسيلة عبر تسييسه ومن خلاله تتم السيطرة على المجتمع.
-تمكين المرأة والشباب:
المرأة والشباب هما الركيزة الأساسية لأي تغيير مجتمعي، فتمكين المرأة وتعزيز دورها في المجتمع يُساهم في خلق بيئة أكثر عدلًا وتوازنًا، كما أن الشباب، بفضل طاقاتهم وطموحهم، يمكن أن يكونوا قوة دافعة للتغيير، ويجب توفير الفرص التعليمية والاقتصادية للشباب، وتشجيعهم على المشاركة الفاعلة في الحياة العامة.
-مواجهة ثقافة الاستهلاك:
الأنظمة المستبدة تعتمد على تحويل الشعوب إلى مجتمعاتٍ استهلاكية، مما يجعلها أقل اهتمامًا بالشأن العام، فيجب العمل على تغيير هذه الثقافة، وتعزيز قيم الإنتاج والإبداع بدلًا من الاستهلاك، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمبادرات الفردية يمكن أن يُساهم في خلق اقتصاد أكثر استقلالية، ويقلل من الاعتماد على الأنظمة الاستبدادية.
-بناء تحالفات إقليمية ودوليّة:
الخروج من مستنقع الاستبداد لا يمكن أن يتم بمعزل عن المحيط الإقليمي والدولي. يجب بناء تحالفات مع منظمات دوليّة تُعنى بحقوق الإنسان والديمقراطية، والاستفادة من الدعم الدولي في تعزيز الجهود المحلية لنشر الوعي ومواجهة الاستبداد، وحتى يمكن الاعتماد على الدبلوماسية المجتمعية وعدم الاكتفاء بالدبلوماسية الرسمية فقط. فكرة الدبلوماسية المجتمعية ربما تكون جديدة على أذهاننا وطرحها المفكر عبد الله أوجلان في مُرافعاته المعنونة “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” في المجلد الخامس، من خلال طرحه لحل القضية الكردية في المنطقة، والتي اجتهد فيها وقال: إنه يمكن “تعميمها” على شعوب المنطقة أجمع لحل كافة القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيق تطورهم.
-الخاتمة
الخروج من مستنقع الاستبداد يتطلب جهودًا متضافرة على جميع المستويات، بدءًا من الفرد وصولًا إلى المجتمع بأكمله، ونشر الوعي وفق أسس علمية، وتعزيز التعليم النقدي، وبناء مؤسسات مجتمعية مستقلة، هي خطوات أساسية نحو التحرر، ويجب أن نؤمن بقدرتنا على التغيير، وأن نعمل معًا لخلق مستقبل أفضل، حيث تكون الحرية والعدالة هي الأساس، بعيدًا عن التعصب والاستبداد.
خطوات مهمة يمكننا القيام بها كي لا يُعيد التاريخ نفسه مرةً أخرى في قادمِ الأيام، ونتخلص من فوبيا تكرار تربّع المستبدين بوجهيهما (العصبوي القومي والمتطرف الديني)، وكي لا نرى ثانيةً تربع من أطلقنا عليهم إرهابيين على عرش السلطة مرةً أخرى، وإلا التاريخ لن يرحمنا البتة مهما فعلنا، والتخلص من ثقافة القطيع لا يتم إلا بثورة ذهنية تهدم ثقافة المسلّمات التي اعتدنا عليها وما يمليه علينا الآخرون، والأهم علينا أن نتعلم أن نقول “لا”، وألا نقول نعم ونرى كل شيء من المسلمات، وتحفيز العقل النقدي والفلسفي هو أساس بناء المجتمعات والإنسان الحر، ومنه يكون الانطلاق لبناء التعايش الأخوي ما بين الفرقاء، حيث يمكن وسم هذا المجتمع بالأمة الديمقراطية.