ضياء إسكندر
في عالم اليوم، لا يسعنا إلا أن نتساءل: لماذا اختار الغرب تبنّي العلمانية نهجاً ثابتاً، وجعلها حجر الزاوية في تطوره وازدهاره؟ ولماذا يُمنع على الدول التي تدور في فلكه الاقتراب من هذا النموذج؟
الجواب باختصار؛ لأن العلمانية – ومن خلال تجربة الغرب – فتحت آفاقاً واسعة للتطور والازدهار، وابتعدت بهم عن براثن الحروب والجهل التي كانت تسيطر على القارة الأوروبية لعقود، وهذا مُحرّم على الدول الأخرى التي تسعى للحاق به، لأنه لا يصبّ في مصلحة الغرب، الذي يدرك تماماً إن العلمانية هي المفتاح الذي يضمن له التفوق، ويخشى أن يؤدي تبنّيها في دول أخرى إلى اختلال في توازن القوى الذي يصبّ لصالحه، ويسعى دائماً وأبداً إلى البقاء على العرش؛ حاكماً، متبوعاً، آمراً، ناهباً..
ولأن الغرب يعرف فضائل العلمانية على أي بلد، فقد استبسل في إقرار نظام المحاصصة الطائفية في لبنان عام 1989 في أعقاب الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة، وكرّر فعلته بعد الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في 2003، حيث فرض أيضاً نظام المحاصصة الطائفية والقومية فيه، وكل متابع لهذين البلدين يُدرك تماماً أي “تطور” تحقق فيهما!
من المعروف أنه في القرن السابع عشر، دارت رحى الحروب الدينية لمدة ثلاثين عاماً في ألمانيا، بين الكاثوليك والبروتستانت، قُتِل خلالها أكثر من نصف سكان ألمانيا. وفي فرنسا، استمرت هذه الحروب قرابة الأربعين عاماً، قُتل فيها الملايين.
وقد راح ضحية الحروب الدينية بشكلٍ عام أكثر من 40% من شعوب أوروبا، والسبب الرئيس في اندلاع هذه الحروب كان حركة الإصلاح البروتستانتية التي قام بها الراهب الكاثوليكي “مارتن لوثر” (مؤسس البروتستانتية)، حين انتقد الكاثوليكية ورفض أفكارها، خاصة صكوك الغفران وإمكانية شراء المناصب الدينية العُليا مثل المطران والبابوية.
فما كان من الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت الحاكم الآمر الناهي، إلا أن استخدمت محاكم التفتيش لبث الرعب في نفوس الناس، وردعهم عن الخروج عن الكاثوليكية، ومحاكمة الهراطقة والمرتدّين والمخالفين لأوامر الكنيسة، حفاظاً على مصالحها، فقامت بإبادة الملايين باستخدام وسائل تعذيب مروّعة مثل الخنق والإحراق والإغراق والإعدام شنقاً، بالإضافة إلى العديد من أساليب التعذيب الوحشية الأخرى.
استنتج المفكرون في الغرب أن هيمنة الكنيسة على الدولة كانت أحد أسباب الحروب والتخلّف والجهل، فقد كانت تتدخّل في أدق الأمور، وتسيطر على كل ما يتناقض مع العقيدة الدينية الجامدة، ومن هنا، توصلوا إلى الحل الأمثل للتخلّص من شرور الكنيسة وسطوتها، عبر تبنّي منهج العلمانية، الذي يعني في جوهره فصل الدين عن الدولة، والمدرسة، والعلم، والسياسة، فاعتمد الغرب هذا المنهج، وانطلق نحو تحقيق معجزات في مختلف المجالات.
ومع هذا النجاح الذي حققته العلمانية في الغرب، هل ستتمكن القوى الديمقراطية في سوريا بمختلف مُسمياتها، من فرض رؤيتها بتبنّي العلمانية، وتحدّي القوى المتشددة كـ “هيئة تحرير الشام” ومن في حكمها؟ أم أن الوضع الحالي يتطلب الكثير من التنسيق والوقت حتى تتمكن هذه القوى من الاتفاق على مشروع يُسهم في إنقاذ سوريا من الفوضى المستمرة، ويجنّبها المزيد من الصراعات التي قد تؤدي إلى محو سورية التي نعرفها إلى الأبد؟
بتقديري إن الممارسات الطائفية المُذِلّة والمهينة وصولاً إلى الإعدامات الميدانية بحق أفراد من طوائف بعينها، والتي ازدادت بشكلٍ يثير القلق من انتشارها وتوسعها، تهدف إلى دفع هذه الطوائف إلى القبول وتبنّي فكرة، لا أقول التقسيم، بل على الأقل، المحاصصة الطائفية في الدستور القادم.
وما يجري حالياً يمهّد الطريق لترسيخ هذه الفكرة في عقول الناس، كما حصل في البوسنة والهرسك والعراق وقبلهما في لبنان.
لا سيما أن إدارة العمليات العسكرية فاقمت الأمور مؤخراً، وأصدرت جملة من القرارات التي ليست من صلاحياتها: (تعيين أحمد الشرع رئيساً للبلاد، وحل حزب البعث وأحزاب الجبهة، وتجميد العمل بدستور 2012، وحل مجلس الشعب، وحل الجيش، والتمديد للحكومة المؤقتة ثلاثة أشهر بعد انتهاء ولايتها، وتأجيل مؤتمر الحوار الوطني إلى أجلٍ غير مُسمى.. وغيرها من القرارات).
من هنا، تبرز ضرورة توخّي الحذر من المخطط الجهنمي الذي يرسمه أعداء الوطن، الذين يسعون لتقويض استقرار المنطقة من خلال زرع الفتن والتمزق الطائفي.
المسؤولية الآن تقع بشكلٍ حاسم على عاتق قيادة العهد الجديد ومن يقف وراءها، إذا استمرت هذه الممارسات الطائفية والممارسات “الفردية”، وإصدار القرارات التي لا تخدم مستقبل البلاد كما يرغب السوريون، قد نصل إلى مستنقع لا مخرج منه؛ جهنم من المجازر والحروب الأهلية والفوضى وعدم الاستقرار.
وفي هذا السياق، يجب أن تتحمّل القوى الوطنية والقيادات الحكيمة عبء المواجهة، فالتوقيت حاسم، إذا استمر التلاعب بالمشاعر الطائفية، فإن البلاد ستغرق في دوامة صراع لا نهاية لها، وعواقبها ستكون كارثية على الجميع. الفرصة أمامنا الآن لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، قبل أن تُمحى سوريا من خريطة التاريخ وتصبح مجرد ذكرى في كتب الحرب.