محمد أرسلان علي
عجيب هو أمر الشرق المتوسطي الذي يُصِرُ على ألا يخرج من القوقعة التي يرتاع منها وفيها، ويحاول بكل ما أوتي من سلطان على أن يحارب ويُجّرم كل من يشعل شمعة تنير درب الحقيقة في ظلمات الأيديولوجيا التي عشعشت في المنطقة، ولا تريد أن تبرحها. أيديولوجيات قومجية عصبوية ومعتقدات دينية متزمتة ماضوية، ورغم أننا نعترف بأن العالم قد تحول إلى قرية صغيرة ولا يمكن إخفاء شيء، حيث أن الثورة المعلوماتية والرقمية جعلت المعلومات في متناول يد الإنسان بسرعة فائقة، حتى باتت التكنولوجيا تقرأ أفكارنا الداخلية وتعرف بما نُفكر، وتقترح علينا مشاريع ومقترحات للقيام بها، وأمام حالة الاستسلام للتطور التكنولوجي وثورة الذكاء الاصطناعي ما بعد النانوية، تحوّل الإنسان إلى مجرد شبه إنسان كامل الشكل والهيئة، لكنه فارغ العقل والوعي. يسبح في بحر الجهل والسطحيّة ويرتوي السذاجة وكأنها إكسير الحياة.
كل شيء يُحيط بنا تحوّل إلى “شبه”، حيث أصبحنا نعيش في الـ “شبه دولة”، ونصفق للـ “شبه رئيس”، ونبجل الـ “شبه زعيم”، وشبه “الوطن، برلمان، حكومة، إعلام، اقتصاد… إلخ”، وحتى بات البعض ممن تراهم يسيرون على الأرض هم أشباه بشر، ليسوا إلا.
مشكلة كبيرة باتت تحاصرنا من كل اتجاه، حيث رغم الكم الهائل من المعلومات والعلوم والمعرفة، إلا أنه البعض يُصِرُّ على أن يبقى أعمى البصيرة، وفوق ذلك يدّعي الثقافة والمعرفة، وهو في حقيقته لا يتعدى عن ذاك الشيء الذي يحمل أسفاراً على وفي هذه النقطة بالذات بمقدورنا أن نرفع القبعة للكاتب والمفكر والفيلسوف الكندي، آلان دونو، الذي أصدر كتاباً ملفتاً للانتباه تحت عنوان “نظام التفاهة”. في هذا الكتاب يقول هذا المفكر الكندي إن: “التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم، فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصلُ والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام”.
ولربما نرى التفاهة بكل تجلياتها في الإعلام الموجه، والذي بات يسيطر على العقل الجمعي ويوجههم حيثما تريد الجهات المعنية، وهي المشكلة التي باتت تؤرِّق مجتمعات بكل ماهيتها وكينونتها، حيث من خلال الإعلام بات بالمقدور أن تشحن عاطفة وشعور مجتمعات وتثيرها ضد بعضها البعض، أو العكس. وهو ما نراه بشكلٍ واضح في الحالة السوريّة والعراقية، حيث يتم تخوين وتجريم واتهام من حارب داعش والإرهاب وقضى عليهم؛ بأنهم انفصاليون وعملاء لهذا الطرف أو ذاك، ويُظهر الإرهابيين – الذين كانوا مطلوبين حتى وقت قريب – بحدِ ذاتهم وكيف أنهم تحولوا إلى محررين لسوريا ويتم تعويمهم على الأقل في راهننا لغايةٍ في نفس يعقوب، وكل ذلك يتوقف على الهدف من الوسيلة الإعلامية التي تم تشكيلها ومن يقف وراءها ومن يدعمها، حينها يمكن معرفة سياسة هذه القناة أو الوسيلة الإعلامية التي تدّعي الحيادية في نقل المعلومة، لكن في حقيقة الأمر؛ أن دورها المرسوم لها معروف وأنه لا يتعدى وظيفة “حريم السلطان”.
هذه المؤسسة التي لها باع طويل وعميق في فترة الخلافة العثمانية سيئة الصيت والسمعة، فكان قيام السلاطين العثمانيين ولكثرة زيجاتهم وأولادهم الشرعيين وغير الشرعيين. كانت أمهاتهم يعِشن في رُكنٍ منعزل يُسمى (حرملك)، وهنا كانت تُحاك كل الفتن والمكائد على بعضهن وحتى على السلطان بحدِ ذاته، فكافة عمليات تنصيب ولاة العهد والسلاطين ومن سيعيش ومن سيموت، كانت تتم في كواليس الحرملك تلك.
ورغم شكلها أنها كانت تمثل حياة الترف والجاه والنزوات والشهوات، إلا أنه في جوهرها كانت بؤرة للفتن والقتل والأكاذيب، ومن هنا امتدت الخلافة العثمانية لأكثر من أربعة قرون ونيف.
انتهى زمن الخلافة العثمانية، إلا أن العقلية لا زالت مستمرة حتى راهننا في مسؤوليهم وزعمائهم على تاريخ الدولة التركية التي تم استحداثها ورسم حدودها في بداية القرن العشرين، بيد الغرب “الفرنسي والبريطاني” اللذين استمرا حتى بعد انسحاب سازانوف القياصرة بعد نجاح ثورتهم في موسكو 1917.
البعض من القنوات والفضائيات العراقية والمحسوبة بشكلٍ من الأشكال على تركيا، وتعمل على تنفيذ أجنداتها وسياساتها في المنطقة وبنفسِ الوقت، تعمل على تلميع صورة تركيا رغم كل ما فعلته بشعوب المنطقة من قتل وتهجير وظلم من جهة، واستقبالها آلاف المرتزقة والإرهابيين من كل بلاد العالم وزجهم في حربها العبثية إن كان في العراق أو سوريا أو ليبيا وحتى في أذربيجان وغيرها من الدول، حيث حولت تركيا هذه الفضائيات إلى أدوات تُشرعن الاحتلال التركي لباشور كردستان “شمال العراق” وتوغلها حتى الحدود الإدارية للموصل في مدينة بعشيقة وإقامة قاعدة عسكرية فيها، بموافقة أشباه موظفين في الحكومة العراقية، والذين يتبرأ منهم الكل.
بعض الفضائيات المحسوبة على المكوّن السني مع الأسف باتت الناطق الرسمي باسم الاستخبارات التركيّة بكل ما للكملة من معنى، حتى أن من يقومون على تقديم برامج هذه الفضائيات، قد حولتهم تركيا إلى مجرد قراقوزات وألعاب ظل يتم تحريكهم متى تشاء وبعدها رميهم حين تنتهي الحاجة لهم، فكيل التهم وتوجيه اللعنات للآخر باتت من المُسلمات لدى هذه الشريحة التي تدّعي الثقافة، ولكن حقيقتها وجوهرها أنهم جهلاء، حتى هم لا يعرفون ماذا يريدون، هي حالة من الانفصال عن الذات وتقليد ما يريد الآخر من أجل المال وفتات ما يتبقى على موائد الذئاب التركية.
مقدمة مقتضبة لسلسلة من المقالات سيتم نشرها وكشف حقيقة هؤلاء القراقوزات المُضحكة وكيف يقدمون برامجهم وتراهم سكارى وماهم بسكارى، لكن كشف حقيقتهم سيكون قريباً، وحينها سيتم تسميتهم بأسمائهم وصفاتهم ومن يُمثّلون، وماذا يهدفون؟