د. طه علي أحمد
لم يَكُن سقوط نظام “حزب البعث” في الثامن من كانون الأول الماضي سوى أحد مؤشرات تهاوي السلطوية المركزية التي تخلَّلَت مفاصل الدولة التي تأسَّست في الشرق الأوسط – بشكلٍ عام – وفي سوريا على وجه التحديد، حيث استندت شرعيّة نظم الحكم فيها على إرادات خارجية، بل وتجذَّرت هذه السلطوية في تكوين العقل الجمعي لغالبية شعوب هذه المنطقة المهمة على خريطة العالم، ورُغم الدور الذي لعبته قوى خارجية في إسقاط النظام البائد، يبقى العامل الأبرز في هذا السقوط هو الفجوةُ الواسعة بين عقلية نظام الحكم ومطالبات الشعب السوري نحو الحرية والعدالة الاجتماعية والتخلص من السياج القومي الأحادي الذي فُرِضَ عليهم بشكلٍ قَسْريٍ لعقود.
الدرسُ المستفاد إذن من هذه التجربة الأليمة يكمن في حتمية “الحل الديمقراطي” عند البحث عن مسارٍ عامٍ لسوريا الجديدة؛ والمقصود هنا هو إعلاء قيم الديمقراطية الأصيلة مثل الحرية والمساواة والتعايش بما يُعَزِّز لُحَمةَ المجتمع ويُفْسِح الطريق نحو تنميةٍ إنسانيةٍ حقيقيةٍ تُلَبِّي متطلبات بناء سوريا الجديدة، والتنميةُ الإنسانية، كمفهومٍ واسعٍ يرتكز على العدل الاجتماعي ويتجاوز حدود السياسة والاقتصاد، تبدأ من السعي لتحقيق الرضى المجتمعي كسبيلٍ لتحقيق الاستقرار والبناء في هذه المرحلة، وهو ما يُستَبعَد تحقُّقه بدون “الحل الديمقراطي”، الذي يصعب تصوّره هو الآخر بعيداً عن لامركزيةٍ تسمح لكافة مكونات المجتمع بإدارة شؤونها في إطار مشروعٍ وطني جامع تُشرِف عليه سلطةٌ وطنيةٌ عُليا تحظى بشرعيةٍ مجتمعيةٍ حقيقيةٍ بعيداً عن منطق “المُتَغلِّب بالقوة” السائد هذه الأيام.
واللامركزية في هذا السياق تتوازى ولا تتقاطع مع طرح “الأمة الديمقراطية” الذي يقدمه المفكر عبد الله أوجلان، كوعاءٍ تذوبُ فيه الحدود والفواصل العرقية والمذهبية لصالح التعايش والتشاركية، وهو الحلُّ الذي يعتبره “تبسيطاً نموذجياً مثالياً سيُخرِجُ المنطقةَ من كونِها ميداناً للحروب الدموية والمجازر والإبادات العرقية والأزمة الدائمة والفوضى العارمة”. لاسيما وأن واقع الأزمة السوريّة الراهنة، يفرض الانتباه لهذا الطرح الديمقراطي الأصيل؛ فظاهر الأزمة وباطنها يكشف عن حالةٍ من “التوازن المضطرب” الذي يجعل الحل العسكري سبباً لتعقيد الأزمة واستحالة تجاوزها بين القوى التي تمتلك في غالبيتها مطالب محلية وأذرع عسكرية متأهبة طوال الوقت، وبالتالي يصعب تصوّر وجود سلطةٍ مركزيةٍ قادرة على إخضاع الجميع بالقوة تحت سيطرتها، لاسيما وإن كانت هذه السلطة المركزية قائمة على أساس مشروعٍ قوميٍ أيديولوجي تزيد مخاوفه مع تصدُّرِ الجماعات الأصولية المتطرفة للمشهد السياسي السوري الراهن، وهو ما يجعل العودةَ إلى الحكم المركزي في سوريا سبيلاً للتأزم وليس للاستقرار.