محمد عيسى
تستمر معاناة القاطنين في مخيمات ومراكز الإيواء في إقليم شمال وشرق سوريا، وسط عدم استجابة دوليّة، لمبادرة الإدارة الذاتية التي أطلقتها لتسهيل العودة الطوعية للنازحين واللاجئين والمُهجّرين، في حين يُشكّل مخيم الهول، عقدة ولا بوادر لحلها دولياً.
ويعدُّ مخيم الهول أحد أكثر الأماكن تعقيدًا في شمال وشرق سوريا، إذ يجمع بين أعباء إنسانية ضخمة وتحديات أمنية خطيرة. المخيم، الذي تأسس لاستيعاب النازحين الفارين من المعارك ضد مرتزقة داعش، تحول إلى مركز مزدحم يضم نازحين سوريين وعوائل داعش من مختلف الجنسيات، فالمبادرة الجديدة التي أطلقتها الإدارة الذاتية تأتي في ظل تصاعد المطالب الشعبية بإيجاد حلول مستدامة لأزمات النزوح، مع استمرار الضغط الدولي لمعالجة ملف عوائل التنظيم الإرهابي.
الهول.. مأساة إنسانيّة عابِرة للحدود
مع تصاعد الأزمات الإنسانية في شمال وشرق سوريا خلال السنوات الأخيرة، بات مخيم الهول رمزًا للمأساة المستمرة التي يعيشها النازحون واللاجئون، ووجهةً رئيسية للأشخاص الفارين من ويلات الحروب والنزاعات المسلحة، حيث يضم المخيم خليطًا من النازحين السوريين، واللاجئين العراقيين، وعوائل مرتزقة داعش الذين تم نقلهم إلى المخيم بعد دحرهم في آخر معاقله بسواعد قوات سوريا الديمقراطية في الباغوز 2019، هذا الخليط الإنساني يعكس التعقيد الهائل للأوضاع هناك، حيث تمتزج التحديات الأمنية مع معاناة المدنيين الأبرياء.
وفقًا لإحصائيات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فإن عدد سكان المخيم تجاوز الـ50 ألف شخص، مما يجعله واحدًا من أكبر المخيمات في المنطقة وأكثرها اكتظاظًا. يشمل هذا العدد ما يزيد عن 16 ألف نازح سوري، وهم أشخاص هجّرتهم الحروب والنزاعات المسلحة من مناطقهم، إضافةً إلى أكثر من 20 ألف لاجئ عراقي، إلى جانب هؤلاء، يحتضن المخيم آلاف النساء والأطفال من عوائل داعش. هؤلاء ينتمون إلى أكثر من 60 جنسية مختلفة، مما يعكس طابعًا دوليًا لهذا الملف الإنساني الذي يمتد تأثيره إلى ما وراء الحدود السورية. هذا الازدحام الهائل يُشكل عبئًا مرهقًا على كاهل الإدارة الذاتية، التي تعاني أصلاً من قلة الموارد في مواجهة التحديات اليومية. تقديم الخدمات الأساسية مثل الغذاء، والماء، والرعاية الصحية أصبح مهمة شبه مستحيلة في ظل الأعداد المتزايدة، خاصةً مع غياب الدعم الدولي الكافي لتلبية الاحتياجات المتزايدة.
وبالإضافة إلى الأزمة الإنسانية في مخيمات العريشة، المحمودلي، طويحينية، وأبو خشب، واشو كاني، سري كانيه، ونوروز تجاوزت حدود الخيام التقليدية، حيث باتت المدارس والمساجد وحتى الصالات الرياضية تُستخدم كملاجئ مؤقتة للنازحين. هذا الأمر يعكس بشكلٍ واضح حجم الكارثة، إذ أن المرافق التي كانت مخصصة لخدمة المجتمع المحلي أصبحت اليوم تحت ضغط شديد بسبب استخداماتها غير التقليدية كمراكز إيواء، على الرغم من هذه الجهود، فإن الحلول المؤقتة لم تعد قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة، مما يجعل الحاجة إلى تدخّل دولي ودعم خارجي أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى.
إلى جانب ذلك، تبرز تحديات من نوع آخر تتعلق بالوضع الأمني داخل مخيم الهول بالتحديد. انتشار عوائل داعش بين المدنيين يُشكّل خطرًا حقيقيًا على الأمن العام، إذ تسعى هذه العوائل إلى نشر الأفكار المُتطرفة بين الأطفال والنساء داخل المخيم، مما يجعل الحاجة إلى برامج تأهيل فكري واجتماعي ضروريّة للحد من تفاقم الأزمة. المخيم لم يعد مجرد مأوى للنازحين، بل أصبح رمزًا للأزمة المتعددة الأوجه التي تعصف بالمنطقة، وتُشكّل تهديدًا أمنيًا وإنسانيًا يمتد تأثيره إلى ما وراء الحدود السوريّة.
وبين ضيق الموارد وتزايد الاحتياجات، تبقى هذه المخيمات جميعها شاهدًا حيًا على المعاناة الإنسانية المستمرة، ودليلًا على فشل المجتمع الدولي في تحمّل مسؤولياته تجاه هذه الأزمة التي تُمثّل تحديًا أخلاقيًا وإنسانيًا يجب مواجهته بحلول مستدامة وشاملة.
العودة الطوعيّة للنازحين مُبادرة إنسانيّة
أعلنت هيئة الشؤون الاجتماعية والكادحين في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا وإدارة شؤون النازحين واللاجئين، في 23 كانون الثاني الجاري عن مبادرة إنسانية تهدف إلى تمكين السوريين المُقيمين في مخيم الهول والعريشة، المحمودلي، طويحينية، وأبو خشب من العودة الطوعية إلى مناطقهم الأصلية. المبادرة تأتي في إطار مساعي الإدارة الذاتية لتخفيف العبء عن المخيمات المكتظة، وخاصةً في ظل التغيرات التي تشهدها الساحة السوريّة بعد سقوط نظام البعث في 8 كانون الأول 2024.
وفيها تؤكد الإدارة تقديم التسهيلات اللازمة للعودة، مشيرةً إلى أنه بعد زوال نظام الأسد، لم يعد هناك خوف من العودة للمناطق الأصلية. المبادرة تشمل تأمين الرحلات للعائلات الراغبة في العودة، في وقتٍ يتطلب فيه الوضع تعاونًا دوليًا لتسهيل هذه العودة، علماً إن الإدارة الذاتية كانت قد أعلنت سابقاً في 5 تشرين الأول 2020 قرارًا مشابهًا، إلا أن المخاوف من النظام السوري كانت تعيق تنفيذها.
إضافةً إلى ذلك، طالبت الإدارة الذاتية المجتمع الدولي والأمم المتحدة باتخاذ موقف حازم لضمان العودة الآمنة للمهجّرين من عفرين وسري كانيه وكري سبي، الذين يعانون من انتهاكات واعتداءات الاحتلال التركي وممارسته التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي في مناطقهم، إلى جانب ذلك شددت الإدارة الذاتية على أهمية توفير ضمانات دولية وأممية تضمن الحماية للنازحين أثناء العودة.
وتعدُّ هذه الخطوة حجر الزاوية في جهود تعزيز الاستقرار المحلي والإقليمي، حيث يمكن أن تساهم في تخفيف الضغط عن المناطق التي تستضيف النازحين واللاجئين والمهجرين، والتي تعاني من استنزاف مواردها المحدودة. تحسين الأوضاع في المناطق المضيفة يعني توفير خدمات أفضل للمجتمع المحلي ككل، ما يساعد على تقليل التوترات الاجتماعية التي قد تنشأ نتيجة للاكتظاظ السكاني وزيادة الطلب على الموارد.
إلى جانب البعد الإنساني، تحمل هذه المبادرة أبعادًا أمنية هامة. إعادة النازحين إلى ديارهم تساهم في تفكيك المخيمات المكتظة، التي أصبحت بيئة محفوفة بالمخاطر نتيجة تداخل المدنيين مع عوائل مرتزقة داعش خاصةً في مخيم الهول.
عوائل داعش الملف الأكثر تعقيدًا
لا يمكن الحديث عن الأزمة الإنسانية في مخيم الهول دون التطرق إلى واحدة من أخطر القضايا التي تلاحق المنطقة: عوائل داعش، فمنذ بداية الأزمة، أصبح مخيم الهول مأوى لآلاف النساء والأطفال الذين ينتمون إلى أكثر من 60 جنسية، معظمهم من عوائل داعش، هؤلاء يُشكِلون تهديدًا دائمًا للأمن والاستقرار في المنطقة، إذ لا يزال مرتزقة داعش يستخدمون المخيم كمركز لتأهيل أفراده، وإعادة تنظيم صفوفه، فضلاً عن نشر الفكر المتطرف بين الأطفال والنساء كما ذكرنا آنفاً.
في ظل هذه الظروف، تواصل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا دعوة المجتمع الدولي لاستعادة مواطنيه من عوائل داعش، في خطوة تهدف إلى تخفيف العبء عن المخيمات وضمان أمن واستقرار المنطقة، ورغم هذه الدعوات المستمرة، لا تزال الاستجابة الدولية بطيئة جدًا ومحدودة. بعض الدول مثل روسيا وكازاخستان أبدت استجابةً جزئية من خلال استعادة عدد من مواطنيها، إلا أن دولًا أخرى ما زالت تتجاهل مسؤولياتها تجاه هذه القضية الإنسانية المعقدة.
دول مثل ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا ترفض أو تؤجل بشكلٍ متكرر إعادة مواطنيها من عوائل داعش، ويُنظر إلى هذا التلكؤ على أنه نابع من دوافع سياسية وأمنية، هذه الدول تبرر تأجيل الاستعادة بحجج تتعلق بالمخاوف الأمنية من تأثيرات عودة هؤلاء الأفراد على استقرارها الداخلي، وحالة الرفض الشعبي والضغط الإعلامي في هذه الدول، وفي الوقت نفسه، تسعى هذه الحكومات لتجنب القضايا القانونية المعقدة المتعلقة بمحاكمة أفراد عوائل داعش الذين قد يعودون إلى بلدانهم.
من جانب آخر، فإن التأخر في استعادة هؤلاء المواطنين يعني بقاءهم في ظروف قاسية داخل المخيمات، حيث يعيش الأطفال والنساء في بيئة مليئة بالآلام والصراعات النفسية، هذا الواقع يعرّض هؤلاء الأفراد، خصوصًا الأطفال، لخطر التلقين الفكري المتطرف، ما يجعل عملية تأهيلهم بعد عودتهم إلى أوطانهم أكثر صعوبة.
إن تجاهل دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية مسؤولياتها تجاه هذه القضية الإنسانية يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة ويستنزف الموارد المحلية التي تحاول إدارة المخيمات وتأمين الخدمات اللازمة للمقيمين فيها، من هنا تبرز أهمية تحرّك المجتمع الدولي بشكلٍ جاد لتقديم الدعم اللازم للإدارة الذاتية، وتسهيل عملية إعادة المواطنين، بما يتماشى مع المعايير الإنسانية والأمنية.
اللاجئون العراقيون استجابة بطيئة ومعقدة
في إطار الجهود الدولية لحل أزمة مخيم الهول، تواصل الإدارة الذاتية بالتعاون مع الحكومة العراقية العمل على إعادة اللاجئين العراقيين إلى وطنهم. الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين أسفرت عن نقل مئات العوائل العراقية إلى مخيمات داخل العراق، أبرزها مخيم الجدعة في الموصل، إلا أن عملية إعادة اللاجئين تسير بوتيرة بطيئة، إذ لا تزال آلاف العوائل تنتظر دورها في العودة.
تواجه هذه العملية العديد من التحديات، منها عدم توفر ضمانات أمنية كافية للعائدين داخل العراق، وصعوبة تأمين برامج لإعادة تأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا بعد سنوات من العيش في ظروف قاسية، بالإضافة إلى ذلك، يبدي العراق ترددًا في استقبال بعض العوائل، خاصةً تلك المرتبطة بمرتزقة داعش، مما يزيد من تعقيد هذه المبادرة ويُطيل أمدها.
في سياق هذه الجهود، غادرت 148 أسرة عراقية، تضم 578 فردًا، مخيم الهول في 25 كانون الثاني 2025. هذه الدفعة، التي تأتي بعد أيام من الدفعة الأولى التي ضمت 193 أسرة، تعكس استمرار التنسيق بين الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا ولجنة الهجرة والمهجرين في مجلس النواب العراقي، وقد توجهت الأسر إلى العراق برفقة قوى الأمن الداخلي في شمال وشرق سوريا، حيث عبرت الحدود تحت إشراف التحالف الدولي.
رغم هذه الخطوات الإيجابية، لا تزال العملية تتسم بالبطء والتعقيد، مما يثير التساؤلات حول القدرة على استيعاب أعداد كبيرة من العوائل وضمان عودتها بشكلٍ آمن ومُستدام.
التحديات المستقبليّة هل من حلول؟
رغم المبادرات الإنسانية التي تطلقها الإدارة الذاتية، إلا أن التحديات التي تواجهها تتطلب استجابةً دولية جادة. ضرورة زيادة الدعم الدولي لتحسين أوضاع النازحين في المخيمات باتت أمرًا مُلحًا، حيث ينبغي على الأمم المتحدة والدول المانحة تقديم مساعدات أكبر لتخفيف الأعباء عن الإدارة الذاتية.
إيجاد حلول سياسية شاملة يمكن أن يُساهم في إنهاء الاحتلال التركي وضمان عودة المهجرين إلى ديارهم، هذا الحل لن يكون له تأثير إيجابي فقط على النازحين والمهجرين قسراً، بل سيُعيد التوازن والاستقرار إلى المنطقة بأكملها.
أما بالنسبة لملف عوائل مرتزقة داعش، فإن التعاون الدولي مع الإدارة الذاتية لاستعادة مواطني الدول من التنظيم الإرهابي ووضع برامج لإعادة تأهيلهم هو ضرورة مُلحّة، وترك هذا الملف دون حل سيؤدي إلى استمرار التهديد الأمني، وسيزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة.
بين مبادرات إنسانية لإنهاء مأساة مخيم الهول، ومطالبات مستمرة بعودة مهجري عفرين وسري كانيه وكري سبي، تقف الإدارة الذاتية أمام مسؤوليات جسيمة في ظل غياب استجابة دولية كافية.