حمزة حرب
بعد سقوط نظام الأسد ومتابعة التحولات الإقليمية والدولية يبرز موقف دولة الاحتلال التركي، التي تحاول أن تركب موجة المتغيرات العسكرية والسياسية التي تمر بها الساحة السورية، وهذه الممارسات ليست ببعيدة عن استراتيجية الاحتلال المعهودة وميثاقها الملي الذي بالمناسبة تتزامن ذكراه السنوية المائة والخمسة مع ما يجري اليوم من تطوراتٍ دراماتيكية على الساحة السورية.
ففي ظل هذه التطورات الميدانية المتسارعة، تبدو دولة الاحتلال أقرب من أي وقتٍ مضى لتحقيق أطماعها المتمثلة بالسيطرة على أراضٍ تمتد من حلب السورية إلى الموصل العراقية، إلا أنها تواجه مقاومة شرسة من قوات سوريا الديمقراطية وشعوب شمال وشرق سوريا الرافضة للمشاريع العثمانية الجديدة، واقتطاع أراضٍ سورية وما يجري اليوم على سد تشرين وجسر قره قوزاق لا ينفصل عن مشروع تطبيق الميثاق الملي، بينما تتشابك المواقف الدولية بين دعوات للتهدئة وإجراءات على الأرض تعيد تشكيل خريطة السيطرة في المنطقة.
ما الميثاق الملي التركي؟!
الميثاق الملي أو بالعربية “الميثاق الوطني” هو اسم لعرفٍ أو دستورٍ أو وثيقة مكونة من ستة بنود تمت الموافقة عليه مع قبيل إعلان الجمهورية التركية، ومع انهيار الدولة العثمانية البائدة وذلك في الـ 28 من كانون الثاني لعام 1920 وعلى أثره تم إعلان الجمهورية التركية في الـ 17 من شباط في العام نفسه.
يرى القومويون الأتراك أن هذه الوثيقة تحتوي على الحد الأدنى من شروط السلام، التي وافقت عليها تركيا في معاهده السلام، التي ستنتهي بها الحرب العالمية الأولى، ومن بين القرارات التي خرجت من الاجتماع وخاصة اعتماد الميثاق الملي الذي أعد من مصطفي كمال أتاتورك مسبقا في جلسة سرية بجهود مكثفه لنواب أعضاء جمعية قانون الدفاع في 28 كانون الثاني 1920 ويلاحظ أنه تم اعتماده باسم بيان نامه العهد الوطني، ولكن بعد ذلك أطلق عليه الميثاق الوطني، وكلا التصريحين يعنيان أيضا اليمين الوطني، وشكلت حدود تركيا وفقا لمبادئ الميثاق إلى حد كبير.
ما يجعل ظاهرة الاحتلال والإلحاق التركي الهادئ والناعم، إن صح التعبير، لعديد المدن والبلدات والقرى في شمال وشمال وشرق سوريا أمر حيوي ومصيري، ولا يقبل التأويل لتركيا، هو الأساس النظري لمثل هذه النوازع، وضعها الآباء المؤسسون للجمهورية التركية سنة 1920، وهي الوثيقة التي يتذرع بها أردوغان لتسويغ سياساته العدوانية في سوريا والعراق للداخل التركي بخطابٍ شعبوي مشبع بالعاطفة المشحونة بالتطرف القوموي.
فأجزاء من سوريا والعراق إلى جانب تراقيا الغربية، وبحر إيجا وشمال قبرص، وهو عينه ما تدركه الدول الغربية، حيث منعت تركيا في عام 2016 من المشاركة في الحملة، التي قادتها الولايات المتحدة ضمن إطار التحالف الدولي لتحرير مدينة الموصل من قبضة مرتزقة داعش وحينها اشتاط أردوغان غضباً وذكر بشكل علني ولافت “الميثاق الملي” قائلاً: “عليهم قراءة الميثاق الملّي ليفهموا معنى الموصل بالنسبة لنا… الموصل كانت لنا”.
في أعقاب ذلك مباشرة، نشرت كبريات الصحف التركية خريطة المنطقة المثيرة للجدل وفق “الميثاق الملي” وفيها يتم اقتطاع أجزاء كبيرة من سوريا والعراق وأجزاء أصغر من اليونان وأرمينيا وإيران وجورجيا وبلغاريا لصالح تركيا، علماً أن “الميثاق الملي” الذي تبناه “البرلمان العثماني” والمعروف باسم “مجلس المبعوثان” في عام 1920 بإيعاز من القائد العسكري التركي مصطفى كمال والذي عُرف لاحقاً باسم “أتاتورك” أي أبو الأتراك قد تم التخلي عنه من الأتراك أنفسهم في مؤتمر لوزان سنة 1923. حيث نصَّ المؤتمر المذكور منح كامل منطقة الأناضول للدولة التركية الحديثة مقابل اعتراف تركيا الجديدة بحدود الدول المستقلة عن الدولة العثمانية البائدة، بما في ذلك سوريا والعراق، وبذلك تم نسف “الميثاق الملي” من الحلفاء المنتصرين وتركيا المهزومة على حدٍ سواء.
أردوغان وإحياء الميثاق الملي
منذ أن انطلقت الاعتداءات العسكرية التركية في شمال وشمال شرق سوريا في سنوات 2016 و2018 و2019 والتي أدت إلى احتلال تركيا ما يقرب من عشرة آلاف كم مربع من الأراضي السورية، لم يدخر أردوغان جهدا لتكريس الأمر الواقع وإحياء الميثاق الملي من خلال تبني وتطبيق سياسات تتريك ممنهجة في تلك المناطق.
وهذا بدوره يعكس النوايا التركية المبيتة في المكوث في تلك المناطق والاستناد إلى احتلالها تحت ذرائع واهية للحصول على موطئ قدم في سوريا المنهكة من أجل المشاركة مع بقية اللاعبين الدوليين والإقليميين في رسم ملامح سوريا المستقبلية بما يتناسب مع الرؤى والأجندات التركية هذا ما عدا النية التركية المبطنة في اقتطاع تلك المناطق بشكل دائم.
فما أن وطئت أقدام الاحتلال التركي عديد المناطق السورية المحاذية للحدود التركية منذ 2016، حتى بدأت النوايا التركية تتكشف بشأن تتريك تلك المناطق بهدف ضمها لاحقا إلى الدولة التركية، حيث عمدت أنقرة إلى تغيير السجل المدني للسكان الأصليين في المناطق السورية، التي تحتلها وسحبت البطاقة الشخصية والعائلية السورية من القاطنين في تلك المناطق، واستعاضت عنها بأخرى جديدة صادرة من المحتل التركي.
كما باشرت أنقرة بإجراءات اقتصادية وتجارية وإدارية مكثفة بهدف التداول بالعملة التركية بدلا من العملة السورية، كذلك سعت إلى تغيير المناهج المدرسية والجامعية، وفرض اللغة التركية في المناطق، التي تحتلها وشيدت فروعا عدة لجامعاتها في إدلب.
لتتضح معالم سوريا يوماً بعد آخر وثمة هاجس كبير بأن البلاد بدأت تفقد المناطق، التي يسيطر عليها الاحتلال التركي وإلى الأبد حالها حال لواء إسكندرون الذي اقتطعه المحتل التركي، سيما وأنها تعمل على تتريك ملايين السوريين لغوياً وثقافياً وإدارياً لأكثر من أربعة ملايين من المُقيمين في المناطق المحتلة شمال سوريا، يضاف إليهم أربعة ملايين لاجئ داخل تركيا، وهؤلاء يشكلون معا قرابة ثمانية ملايين سوري لتصبح قرابة ثُلث سوريا مرتبطة موضوعياً بتركيا وسياساتها وخياراتها المستقبلية، وهي استراتيجية تركية واضحة تعمل لأجلها كأساسٍ لتطبيق ميثاقها الملي.
وعلى الرغم من أن التاريخ يؤكد إن مطالب تركيا الأتاتوركية بما أسمته الميثاق الملي جوبه بالرفض من الحلفاء وأبرزهم فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليونان، وتم رفض الميثاق جملة وتفصيلاً، كونه يعد بمثابة إنكار مطلق لهزيمة الجيوش العثمانية وتتالى الهجوم اليوناني العسكري حتى إلى عمق الأناضول، ففرض الحلفاء معاهدة سيفر بشروط وبنود قاسية حصرت حدود الدولة التركية المفترضة، وهو ما قيد وضبط جماح أطماع العثمانيين الجدد الذين أنكروا وجود أي شعب آخر يعيش على أرضهم التاريخية، فهم يعتبرون سكان هذه المناطق من الكرد، والسريان، والعرب، جزءاً من الأمة التركية، وأن أراضيهم هي أراضٍ تابعة للدولة التركية. وهو ما تعمل عليه حكومة أردوغان العثمانية الجديدة منذ عام 2016 واحتلال جرابلس، والباب وإعزاز تلاها ما حدث عام 2018 واحتلال عفرين بعد ستين يوماً من المقاومة، التي هزَّت الضمير العالمي ثم بعدها بعام احتلال سري كانيه، وكري سبي/ تل أبيض 2019 وصولاً إلى احتلال منبج نهاية عام 2024 بعد سقوط نظام البعث.
عمليات الاحتلال هذه رافقها عمليات تغيير ديمغرافي من خلال توطين المرتزقة في المناطق المحتلة، ومحاولة إقامة منطقة أشبه بإقليم تابع لتركيا يمتد من إدلب غرباً وحتى العراق شرقاً، أي ضمن حدود ما يسمى بالميثاق الملّي، وذلك بعد مائة عام من لوزان عام 1923 فهي محاولة تركية لنقض بنود لوزان وتجاوز الحدود إلى منطقة الموصل بما فيها المناطق، التي تديرها حكومة باشور كردستان وكركوك والمناطق المتنازع عليها من هولير وبغداد، وتكرار سيناريو ضم لواء إسكندرون.
لأن المؤشرات تشي بأننا أمام ظاهرة من الممكن أن تُسمى “شمال سوريا التركية” على غرار “شمال قبرص التركية” التي اجتاحتها واحتلتها تركيا سنة 1974، فالسياسات والسلوكيات التي تنتهجها تركيا الأردوغانية في المدن والبلدات التي تحتلها في شمال وشمال شرق سوريا توحي بأن أنقرة تتصرف في تلك المناطق، وكأنها جزء من جغرافيتها أو كأنها في طور الإعداد لإلحاق تلك المناطق بخريطتها إما رسميا أو بحكم الأمر الواقع.
لواء إسكندرون
لواء إسكندرون أو لواء الإسكندرونة، يُعدُّ في سوريا المحافظة الخامسة عشرة، رغم أنه منذ عام 1939 أصبح تابعًا لتركيا يُطلق عليه بعض المؤرخين مثل ستيفن لونغريج “الألزاس واللورين السورية” كانت منطقة إسكندرون جزءًا من ولاية حلب في سوريا العثمانية، حيث شكلت مرفأً هامًا على البحر.
مثلت المنطقة في المؤتمر السوري العام، وكانت تابعة للدولة السورية عام 1926 وعاصرت إعلان الجمهورية السورية الأولى؛ فغالبية سكان اللواء كانوا من عرب سوريا، موزعين بين السنة، والعلويين، والمسيحيين، بالإضافة إلى الأرمن في المقابل، لم تتجاوز نسبة التركمان فيه 39.4% وفق إحصاءات عام 1939.
بعد سلخ اللواء، نزح عدد كبير من سكانه العرب والأرمن إلى مدن سورية مثل دمشق، وحلب، وحمص، واللاذقية. استُثنيت من النزوح بلدة كسب ذات الأغلبية الأرمنية، حيث عدّلت المفوضية الفرنسية الحدود لتصبح جزءًا من محافظة اللاذقية.
فبدايات عام 1939 شهدت شروع تركيا بضم إسكندرون الذي أصبح اسمه “هاتاي فيما بعد وطبقت عليه القوانين التركية، بعد عمليات شد وجذب وذهاب وعودة من عصبة الأمم، لإقرار قانون انتخابي ثم تعديله على مقاس الدولة التركية ونجاح النظام التركي باستقطاب المزاج العام في اللواء والتأثير عليه بعملياتٍ مشبوهة، ثم إجراء الانتخابات التي كانت المقدمة السياسية الكاملة لإلحاق إسكندرون بأراضيها، رسمياً، بدءا من تاريخ 23 تموز يوليو 1939.
أثار سلخ اللواء احتجاجات واسعة في عام 1939، أدت إلى الإطاحة بحكومة جميل مردم واستقالة الرئيس هاشم الأتاسي لاحقًا، ليتم عدِّ اللواء أرضًا محتلة؛ ما ساهم في بقاء سوريا خارج مشاريع إقليمية مثل “حلف بغداد”، حيث كانت تركيا عضوًا فيه.
توترت العلاقة مع تركيا مجددًا عام 1957، ووصلت الأمور إلى إرسال الأسطول المصري إلى اللاذقية للدفاع عن سوريا في حال اندلاع حرب، ولم تعترف أي حكومة سورية بشرعية ضم اللواء إلى تركيا لحين تخلي حافظ الأسد عن كامل حقوق سوريا التاريخية بأراضي لواء إسكندرون ما عدَّ بيعه لتركيا، وذلك من خلال توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 التي تنازل فيها حافظ الأسد عن شرعية سوريا وحقها في استعادة اللواء بعد أن تضمنت الاتفاقية في ملحقها الثالث بنداً ينص على إنهاء كل الخلافات الحدودية بين البلدين، ما يعني تنازل حكومة دمشق عن حق سوريا في المطالبة بلواء إسكندرون، المشار إليه في تركيا بإقليم هاتاي، ومنذ ذلك الحين أزيل اللواء عن الخارطة السورية في الكتب المدرسية والمعاملات الرسمية في سوريا.
محاولات استنساخ التجربة
فكل ما تقوم فيه تركيا هي سياسة القطع الناعم بذرائع وحجج وظروف متغيرة للوصول إلى المبتغى بتحقيق بنود الاتفاق الملي بينما يناضل الشعب السوري بكرده، وعربه، وسريانه، وكل شعوبه وأطيافه إلى الحيلولة دون سلخ المزيد من الأراضي السورية.
بينما يؤكد مراقبون أن على المناوئين للاحتلال التركي في سوريا توحيد وتكثيف الجهود التي من شأنها رصد سياسات التتريك في المناطق السورية المحتلة بهدف فضحها وتعريتها من خلال التنسيق مع جميع منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية وغيرها لتأليب المجتمع الدولي ضد الممارسات التركية الشنيعة.
كذلك يعول الكثير على مواقف الدول العربية في ضرورة أن تتبنى موقفاً واضحاً وصريحاً ضد الاحتلال التركي في سوريا والعراق، وطرح هذه القضية المصيرية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بهدف استصدار بيان أو قرار رسمي من المنظمتين يطالب تركيا بالخروج من تلك المناطق.
كما يتعين على هذه الدول دعم القوات العسكرية المتمثلة بقسد، ومقاتليها الكرد، والعرب، والسريان، والآشوريين؛ لأنهم هم رأس حربة في الوقوف بوجه أطماع تركيا وما قدموه في الدفاع عن كل المناطق السورية للذود عن حياضها، وضد إحياء العثمانية مجدداً في المنطقة لأن التاريخ يشهد بأن كل منطقة غزتها واحتلتها تركيا، بصرف النظر عن الذريعة، تأبدت فيها وألحقتها بدولتها المشيدة على عذابات الآخرين.
لواء إسكندرون التي ابتلعتها تركيا سنة 1939 وشمال قبرص في عام 1975 وعديد المناطق التي تحتلها في باشور كردستان، وهذا كله غيض من فيض الشراهة التركية لابتلاع أراضي الآخرين، وجميعها تمت بواسطة بعض الخونة والعملاء والبيادق.