بدرخان نوري
لم يقتصر الوجود الروسيّ على قاعدة حميميم الجويّة في محافظة اللاذقية والقاعدة البحريّة (المركز اللوجستي البحريّ الروسيّ) في مدينة طرطوس، بل تعدى ذلك إلى توقيع عقد استثمار ميناء طرطوس. لكن سقوط النظام السوريّ في 8/12/2024 وفرار الأسد إلى روسيا، أثار تساؤلات حول مجمل العلاقة مع موسكو، وكذلك وضع المنشآت العسكريّة الجويّة والبحريّة واتفاق استثمار ميناء طرطوس. وليكون مستقبل الوجود الروسيّ في سوريا رهن التفاوض.
إلغاء اتفاق استثمار ميناء طرطوس
قالت مصادر في هيئة المنافذ البرية والبحريّة في إدارة هيئة تحرير الشام، الثلاثاء 21/1/2025، إنه تم إلغاء اتفاقية الاستثمار الروسيّ في مرفأ طرطوس، لتُصبح الإيرادات بعد تنفيذ هذا القرار للدولة السوريّة. وأوضحت المصادر، أن “هذا القرار اُتخذ، الاثنين الماضي، وسيصدر قرار تفصيليّ بهذا الشأن بأقربِ وقت، متضمناً توضيحات بشأن آلية إلغاء الاستثمار الروسيّ، وعدم وجود ترتيبات ماليّة مستحقة على الجانب السوريّ بسبب هذا القرار”.
23/1/2025 وتحدثت وسائل إعلام محليّة نقلاً عن مدير جمارك طرطوس، رياض جودي، عن إلغاء الاتفاق الموقع مع شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسيّة، وفي حال تأكيد إلغاء العقد مع الشركة فهذا لا يعني إنهاء الوجود الروسيّ في طرطوس.
وأضافت المصادر، إن “الجانب الروسيّ لم يلتزم بتحديث الآليات والمعدات وصيانتها وفق الاتفاقية، التي وقعها مع النظام السابق، لأن الآليات المتضررة والمتهالكة كثيرة، وتم وضع خطة من هيئة المنافذ البرية والبحريّة لتطويرها”. وأشارت إلى أن “وجود نقاشات جارية بشأن السوريين العاملين في شركة الاستثمار الروسيّة، وعددهم نحو ألف، مع إمكانية إعادة توظيفهم في المرفأ للاستفادة من خبراتهم”.
السكرتير الصحفي للكرملين، دميتري بيسكوف، أرجع الإجابة لسؤال إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس الموقع بين الشركة الروسيّة وحكومة نظام الأسد إلى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسيّة، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقده الخميس 23/1/2025.
روسيا حاضرة في طرطوس على الصعيدين العسكريّ عبر “المركز اللوجستيّ البحريّ الروسيّ” والاقتصادي في استثمار شركة “ستروي ترانس غاز”. كبرى شركات المقاولات الروسيّة، وتعمل في مجالات هندسة الطاقة والنفط والغاز والبتروكيماويات. بدأ استثمارها في سوريا عام 2005، ومن مشاريعها في سوريا بناء القسم السوريّ من خط الغاز العربيّ، استثمار وتأهيل “الشركة العامة للأسمدة” ومعاملها.
مفاوضات البقاء
قالت وكالة “تاس” الروسيّة، في 27/12/2024، إن روسيا تجري مع إدارة هيئة تحرير الشام مفاوضات حول قواعدها في سوريا، إذ تحاول ضمان بقاء قواتها في سوريا خاصة في قاعدتي حميميم الجويّة وطرطوس البحريّة. ونقلت الوكالة عن مصدر مطلع على سير المفاوضات، بأنّ المفاوضات جارية لضمان ألا تصبح “الظروف القاهرة”، أي العمليات العسكريّة التي أدت لإسقاط نظام بشار الأسد، سبباً في إنهاء الاتفاقيات الموقعة مع النظام السابق. وأضاف المصدر، إن حكومة دمشق لا تخطط لخرق الاتفاقات في المستقبل القريب، وبموجبه تستخدم روسيا القواعد العسكريّة في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
ويناقش المشاركون في المفاوضات حجم القوة العسكريّة الروسيّة التي يمكن أن توجد في القاعدتين. وقال وزير الدفاع السوريّ، مرهف أبو قصرة، في اجتماع الأربعاء 22/1/2025، إن هناك مفاوضات تجري مع روسيا حول قواعدها عبر قنوات وزارة الخارجيّة.
وقال وزير الخارجية الروسيّ، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي عقده في موسكو، في 14/1/2025 إن سفارة بلاده لم تغادر دمشق، و”لدينا اتصالات يومية مع السلطات هناك، ونريد أن نكون مفيدين في الجهود الرامية إلى تطبيع الوضع”. وأضاف: “محادثاتنا تظهر أن الجميع ينطلق من قناعة بأن عملية التسوية يجب أن تشارك فيها روسيا وإيران إذا كانت هناك رغبة حقيقيّة في الوصول إلى نتائج مستدامة وملموسة، وليس فقط تصفية الحسابات بين المتنافسين على الأراضي السوريّة”.
فيما اعتبر مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، أنّ “العلاقات بين روسيا الاتحادية وسوريا تدخل اليوم في منعطف نوعي جديد”. وأضاف على “الجانبين الانطلاق من الإرث العميق للصداقة بين الشعبين الروسي والسوري للحفاظ على المكتسبات والمنجزات والمضي للأمام في خلق مناخات جديدة للتعاون البنّاء”. وأشار إلى أن بلاده تتابع باهتمام تطورات الوضع في سوريا، وتنظر إلى العلاقات مع دمشق باعتبارها من أولويات سياستها الخارجية.
وأعرب عن ارتياح الدبلوماسية الروسيّة للتصريحات الإيجابيّة الصادرة عن إدارة هيئة تحرير الشام تجاه روسيا والحرص على العلاقات الاستراتيجيّة بين البلدين، مضيفاً أن موسكو ترى في هذه المواقف الإيجابيّة أرضية قوية للانطلاق نحو الأفضل.
يُذكر، إنّ قاعدة طرطوس أو “المركز اللوجستيّ البحريّ الروسيّ”، أنشئت لأول مرة عام 1971 باتفاق بين الاتحاد السوفييتي وسوريا، وكانت قبلة للبوارج والسفن الحربيّة الروسيّة وقاعدة تموين وصيانة خلال الحرب الباردة، واستمر ذلك حتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
قاعدة حميميم ومنشأة طرطوس
اعتبر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الاثنين 9/12/2024، أنه من السابق لأوانه تحديد مستقبل القواعد العسكريّة الروسيّة في سوريا، مضيفاً أن هذا كله موضوع للمناقشة مع أولئك الذين سيتولون السلطة في سوريا. وذكر أن هناك “عدم استقرار شديد” في البلاد. وقال بيسكوف: “بالطبع، يتم الآن القيام بكل ما هو ضروري وكل ما هو ممكن من أجل التواصل مع أولئك الذين يمكنهم التعامل مع الأمن. وبالطبع، يتخذ جيشنا أيضاً الاحتياطات اللازمة”.
وكانت الخارجية الروسيّة قد قالت الأحد 8/12/2024 في بيان إن قواعدها العسكريّة في سوريا “في حالة تأهب قصوى”، مؤكدة أنه لا يوجد تهديد خطير لها في الوقت الحالي. وقالت: “في هذا الصدد، روسيا الاتحادية على تواصل مع الجماعات في المعارضة السوريّة”.
ووفقاً لوكالة “رويترز”، فإن القاعدتين الروسيّتين في طرطوس وحميميم، تشكلان جزءاً لا يتجزأ من الوجود العسكريّ الروسيّ العالميّ، إذ إن قاعدة طرطوس البحريّة هي مركز الإصلاح والإمداد الوحيد لروسيا في البحر المتوسط، في حين تعد قاعدة حميميم نقطة انطلاق رئيسية للنشاط العسكريّ في إفريقيا. وتمتلك البحريّة الروسيّة حالياً خمس سفن بحرية وغواصة متمركزة في طرطوس، تتألف من فرقاطتين من فئة “جورشكوف”، وفرقاطة من فئة “غريغوروفيتش”، وسفينتَي مساعدة، وغواصة من فئة “كيلو” المحسنة.
وحسب موقع Naval News، فإن السفينة المساعدة “يلنيا” شوهدت وهي تغادر طرطوس صباح يوم 2/12/2024، وأشارت معلومات إلى أن بعض أو كل السفن الأخرى غادرت أيضاً. وذكر الموقع أن هذه التحركات غير المؤكدة، ومن المرجح أن تكون مرتبطة بشكل مباشر بالوضع على الأرض. وإذا كان الأمر كذلك، فهذه أول علامة واضحة على أن روسيا تنقل أصولها العسكريّة القيّمة خارج سوريا.
ووفق تقرير لـ”BBC”، نشر في 2/1/2025، فإنَّ مهمة سحب القواعد الروسيّة “ليست صغيرة”، فالقواعد تحوي أنواعاً مختلفة من الأسلحة خاصة في قاعدة “حميميم” الجويّة، إلى جانب نحو 7500 جندي. وذكر تقرير “BBC” أنّ نقل الدبابات الثقيلة والعتاد العسكريّ يحتاج لطائرات من نوع “An-124” (أنتونوف 124) وهي واحدة من أكبر الطائرات في العالم، وطائرات “IL-76” (إليوشن 76) في فترة زمنية قصيرة.
وحسب “BBC”. فإنّ استخدام الطريق المائيّ من ميناء طرطوس “ليس سهلاً أيضاً”، ويعني ذلك أن سحب القواعد “سيكلف أموالاً طائلة وسيكون المشروع ضخماً”. وصعوبة سحب القواعد يضعف موقف روسيا أمام حكومة دمشق في حال أرادت روسيا الحفاظ على قواعدها.
اتفاق استثمار ميناء طرطوس
قال نائب رئيس الوزراء الروسيّ، يوري بوريسوف، حسب وكالة “سبوتنيك” الروسيّة الثلاثاء 17/1/2019 إن روسيا تعتزم تحديث الميناء القديم وبناء ميناء تجاري جديد. وقدر بوريسوف حجم الاستثمارات للسنوات الأربع المقبلة بـ500 مليون دولار، مشيراً إلى أنه تم توفير 3700 فرصة عمل في طرطوس. وإلى جانب المرفأ، أكد بوريسوف أن روسيا تخطط لاستعادة ووضع سكك حديدية جديدة في بعض المناطق عبر العراق وسوريا لإنشاء ممر النقل بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي.
ويأتي ذلك خلال زيارة المسؤول الروسيّ إلى دمشق، إذ التقى رئيس النظام السوريّ، بشار الأسد، حسب ما أعلنته حسابات “رئاسة الجمهورية السوريّة” في مواقع التواصل.
وقالت المنصات: إن اللقاء تناول تعاون البلدين في المجال الاقتصادي، وسير تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، حيث تم التطرق إلى المعوقات وسبل تجاوزها والإجراءات والتسهيلات الممكن اتخاذها بغية تسريع تنفيذها. كما تطرق اللقاء إلى الحديث عن إقامة مشاريع استثمارية وصناعية جديدة وفق مصالح البلدين.
وكانت روسيا وحكومة النظام السوريّ السابق وقعا عقداً، في نيسان الماضي، لاستثمار ميناء طرطوس من قبل موسكو.
مطلع الألفية الثانية عاد اعتماد الروس على ميناء طرطوس مع إعادة تنشيط العلاقات الروسيّة – السوريّة. واتخذت روسيا من ميناء طرطوس موقعاً لبناء قاعدتها العسكريّة البحريّة،
مضمون اتفاق الاستثمار
دعمت روسيا النظام السوريّ سياسيّاً وعسكريّاً، ولكنها تدخلها لم يكن مجانياً، بل سعت خلال العام الماضي إلى إيجاد طريقةٍ لاستيفاء كلفة تدخلها ودعمها، فوقعت عدة اتفاقيات في قطاعات حيويّة وسياديّة في سوريا مثل اتفاق استثمار ميناء طرطوس واستخراج الفوسفات والتنقيب عن النفط والغاز وإنشاء صوامع الحبوب.
يمكن القول: إنّ اتفاق استثمار ميناء طرطوس الذي وقعته روسيا مع النظام، في 18/1/ 2017. لم يكن متوازناً وينطوي على كثيرٍ من الغبنِ، على حساب السوريين، وفيما يلي أبرز بنود الاتفاق:
“ـ مدة الاتفاقية 49 سنة تمدد تلقائياً لمدة 25 سنة أخرى، ما لم يعترض أحد الطرفين.
ـ تسليم الجانب السوريّ الأراضي والمساحات إلى الجانب الروسيّ بدون مقابل حتى انتهاء مدة الاتفاقية (تشمل هذه الأراضي المنطقة الساحلية والمنطقة المائية في ميناء طرطوس والمنطقة الأمامية التي تحتوي على أرصفة بحرية ومنشآت عائمة). والجهات المفوضة من الجانبين هما وزارة الدفاع الروسيّة ووزارة الدفاع السوريّة. والعدد الأقصى المسموح بوجوده للسفن الروسيّة في المرفأ في وقت واحد هو 11 سفينة، بما فيها سفن بمحركات نوويّة.
ـ يمكن للجانب الروسيّ أن يقوم بإصلاحات وإعادة بناء وتأسيس شبكات اتصالات وغيرها كما يشاء في المرفأ. وكل ما تجلبه روسيا من تجهيزات ومعدات وأثاث يعود لملكيتها الخاصة ويتم نقله إلى روسيا عند انتهاء مدة الاتفاقية.
ـ لروسيا الحق بأن تنقل إلى المرفأ كل ما تريده من أسلحة وكادر عسكريّ ومدنيّ مع عائلاتهم دون دفع رسوم للجهات السوريّة ولا يخضع هؤلاء القادمون للمرفأ من روسيا إلى أي تفتيش أو فحص لأمتعتهم أو ما يجلبونه معهم.
ـ حصانة الوجود الروسيّ في المرفأ، حيث لا يحق للسوريين أو لممثلي السلطة السوريّة الدخول إلى أرض المرفأ بدون موافقة القائد العسكريّ الروسيّ للمرفأ. ويعتبر المرفأ غير خاضع للقوانين السوريّة من إجراءات أمنيّة وقانونيّة وجمركيّة. كما لا يمكن للجانب السوريّ الاطلاع على وثائق وأرشيف المرفأ.
لا تخضع السفن الحربيّة وكافة المعدات العسكريّة البحريّة والجويّة الروسيّة وغيرها للرقابة أو التفتيش من الجانب السوريّ. وتتمتع الكوادر العسكريّة الروسيّة وعائلاتهم بحصانة وامتيازات في التعامل، ولا يمكن تفتيشهم أو اعتقالهم بأي شكل من الأشكال من قبل الجانب السوريّ.
ـ يقوم الجانب السوريّ بتزويد المرفأ بالوقود والكهرباء والمياه النقية وخدمة الهاتف وغيرها على أساس عقد تجاري بين الجانبين، فيما تخضع الخدمات الطبية للاتفاق الخاص بين الطرفين”.
مبررات النظام لتوقيع الاتفاق
في 25 نيسان 2019، أعلن وزير النقل في حكومة النظام السابق، علي حمود، أن العقد مع شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسيّة بشأن مرفأ طرطوس هو عقد استثمار لا استئجار، ويستمر لمدة 49 سنة. والعقد هو استثمار لشراكة في إدارة وتوسيع وتشغيل مرفأ طرطوس، وفق نظام عقود التشاركية بين القطاع العام والخاص المعمول به في سوريا، وفق حمود.
وبرر حمود، حينها، سبب العقد مع روسيا، بأن سوريا بحاجة إلى مرافئ جديدة تستوعب حمولات سفن تصل إلى 100 ألف طن، وأرصفة مرفأ طرطوس تتراوح أعماقها حالياً بين 4 و13 متراً، وتستوعب من 30 إلى 35 ألف طن لوزن السفينة الواحدة، وإنشاء أرصفة جديدة أو توسيعها يحتاج إلى مبالغ كبيرة، وسوريا تحتاج إلى هذه المبالغ لاستثمارها في قضايا ذات أولويات أهم، لذلك لجأت الحكومة إلى استثمار المرافئ عن طريق الشركات الروسيّة الصديقة لتوسيع المرفأ وضخ 500 مليون دولار فيه.
المرفأ الجديد، حسب العقد، يستوعب حجم أعمال يصل إلى 38 مليون طن سنوياً بعد أربعة ملايين في 2019، وفق توقعات حمود.
وكان المتوقع أن يرتفع عدد الحاويات التي تصل إلى المرفأ من 20 ألف حاوية عام 2019 إلى مليوني حاوية، وهذا سيؤدي إلى وصول بضائع إلى سوريا والدول المجاورة، وسيضاعف الإيرادات في وزارة النقل إلى عشرات الأضعاف.