محمد عيسى
على ضفاف الفرات، أصبح سد تشرين شاهداً على التحديات والانتصارات. فلم يبقَ مجرد منشأة مائية استراتيجية توفر المياه والطاقة لآلاف السكان في شمال وشرق سوريا، بل عدت رمزاً للصمود وعنواناً للمقاومة والتضحية، في ظل العدوان التركي المستمر.
منذ الثامن من كانون الأول 2024، تشن دولة الاحتلال التركي هجمات مروعة على سد تشرين وجسر قره قوزاق، حيث تستخدم الطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة في عدوانها المستمر. تستهدف هذه الهجمات بشكل مباشر المدنيين وحماة السد من قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة، لتؤدي إلى جرح واستشهاد العشرات منهم.
دروع حصينة للسد في ظل القصف المستمر
سد تشرين، الذي يعد ثاني أكبر سد في سوريا، شهد تصدعات عديدة جراء الغارات الجوية المكثفة التي شنتها طائرات دولة الاحتلال التركي المسيّرة والمدفعية الثقيلة. محاولة منذ بداية الهجمات احتلال السد، وذلك للسيطرة على منابع المياه الحيوية والوصول إلى منطقتي كوباني شمالاً والرقة جنوباً، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً لأمن واستقرار المنطقة.
وبهدف الوقوف في وجه تلك الهجمات كدرع حصين لحماية السد من الانهيار ودعم قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة هناك، قرر أهالي شمال وشرق سوريا الانضمام إلى تلك المقاومة على السد على شكل مناوبات، فمنذ الثامن من كانون الثاني 2025، تزايدت الحشود المدنية المتوجهة إلى سد تشرين، حيث يدرك أهالي إقليم شمال وشرق سوريا أهمية هذا السد في تأمين المياه للكثير من القرى والمدن المحيطة، إلى جانب أهميتها الجغرافية، لكن الغارات الجوية والمدافع لدولة الاحتلال التركي، لم تتوانَ عن هجماتها وقصفها، لتستهدف قوافل المدنيين بشكل مباشر، لإعاقة دربهم نحو السد، مرتكباً مجازر عدة.
في الثامن من كانون الثاني، تعرضت القافلة الأولى المتوجهة إلى سد تشرين للهجوم، مما أدى إلى استشهاد الناشطة المدنية زوزان حمو، وكرم أحمد الشهاب الحمد، وهي عضوة تجمع نساء زنوبيا، وآزاد فرحان، ومحمد حسان من حركة الشبيبة الثورية السورية.
وفي 15 كانون الثاني، استهدفت طائرات الاحتلال التركي المدنيين المناوبين في محيط السد بشكل مباشر، ما أسفر عن استشهاد عضو الكادر الصحي عمر حسن، مع الزوجين هيزا محمد وأدهم علي، بالإضافة إلى عثمان إبراهيم، وهو عضو في مجلس الإدارة الذاتية لمقاطعة الفرات.
وفي 17 كانون الثاني، أدى الهجوم المتكرر على المدنيين المناوبين لحماية السد إلى استشهاد ماهر محمد، عضو الكادر الصحي، ثم جاء اليوم التالي ليشهد قصفاً آخر استهدف المناوبين في سد تشرين، ما أدى إلى استشهاد أكرم رخو، وكيفو عثمان، وهو عضو في مجلس عوائل الشهداء، ومنيجة حيدر، وهي الرئيسة المشتركة لمكتب حزب الاتحاد الديمقراطي، بالإضافة إلى كل من مظفر محمد وعبد القادر إبراهيم، إلى جانب العشرات من الجرحى ومن بينهم جمعة خليل المشهور باسم بافي طيار، لينال مرتبة الشهادة هو الآخر بعد إصابته بيوم 19 كانون الثاني الجاري.
وبتاريخ 21 شهر كانون الثاني الجاري، وفي اليوم الذي كان يشيع أهالي قامشلو شهداء سد المقاومة، عاود الاحتلال استهداف المدنيين المقاومين في سد تشرين، ليصيب العشرات منهم بينهم أربعة صحفيين وصحفيات، واستشهد مدنيين اثنين.
أسلحة ثقيلة تستخدم في العدوان
استخدم جيش الاحتلال التركي الطائرات الحربية بكثافة في هجماته، حيث شملت طائرات مسيّرة من نوعي بيرقدار TB-2 وأكنجي، وهي أحدث أنواع الطائرات التي تمتلكها دولة الاحتلال التركي وتحمل صواريخ موجهة، بالإضافة إلى المدافع الثقيلة وراجمات الصواريخ والعربات المدرعة.
وخلال الأيام الأخيرة، استهدفت هذه الغارات عشرات المواقع في إقليم شمال وشرق سوريا، بما في ذلك الريف الجنوبي والغربي لمدينة كوباني، محيط جسر قرقوزاق، أطراف سد تشرين، القرى الغربية لمقاطعة كري سبي، والقرى الشرقية والغربية لمدينة عين عيسى، بالإضافة إلى مناطق تل تمر، وجبلي كزوان في الحسكة وقره جوخ في ديرك.
وتُظهر الإحصائيات الأخيرة التي وثقتها قوات سوريا الديمقراطية في مواجهتهم لمرتزقة دولة الاحتلال التركي، أن عدد القتلى من المرتزقة بلغ 365 مرتزقاً، معظمهم قتلوا على التخوم الغربية لسد تشرين، بالإضافة إلى مقتل عدد آخر منهم بالقرب من جسر قرقوزاق وعين عيسى. كما تم إسقاط ثلاث طائرات مسيّرة من نوع بيرقدار TB-2 بالقرب من جسر قره قوزاق، وطائرة من نوع عنقاء في ريف بلدة تل تمر، وطائرة من نوع Aksungur في ريف الدرباسية.
تحت قصف الاحتلال التركي صمود وتضحية
تواصل قوات سوريا الديمقراطية، وخاصة مجلس منبج العسكري ووحدات حماية المرأة، التصدي للعدوان التركي على سد تشرين، حيث لا تزال قواتها متمركزة على الضفة الغربية لنهر الفرات وعلى بعد ثمانية كيلو مترات من السد، تخوض معارك عنيفة في قرى العلوش، تل عريش، السعيدية، ونعيمة إلى جانب أطراف بلدة أبو قلقل. رغم التحشدات العسكرية التركية الكبيرة، لم تحقق الأخيرة أي تقدم في محيط السد.
وتواصل قوات سوريا الديمقراطية نضالها، بينما تتعرض المنطقة لهجمات مكثفة من دولة الاحتلال التركي. وحتى الآن، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية عن استشهاد 81 من مقاتليها ومقاتلاتها في هذه المقاومة البطولية. خلال الشهر الماضي، استشهد 49 مدنياً في الهجمات التركية، حيث شن الاحتلال مرتين متعاقبتين قصفاً مدفعياً على قريتي المستريحة وصفيان في ناحية عين عيسى، مما أسفر عن استشهاد 20 مدنياً. وأيضاً في مدينة منبج، استشهد ثلاثة من أعضاء تجمع نساء زنوبيا إثر هجوم الاحتلال التركي، الذي دخل إلى المدينة في الثامن من كانون الأول.
وفي الـ11 من كانون الأول، استشهدت مسنة نتيجة إطلاق النار المباشر من المرتزقة ضد المدنيين على جسر قرقوزاق، وتلا ذلك استهداف سيارة إسعاف تابعة لمشفى كوباني، ما أدى إلى استشهاد السائق وأحد الجرحى الذين كانوا يتم نقلهم. كما تسبب القصف المدفعي التركي على قرية جعدة في فقدان طفلين حياتهما، بجانب استشهاد أم وطفل آخرين في قصف آخر في 12 من كانون الأول.
وفي الـ13 من كانون الأول، أقدمت المرتزقة على قتل صاحب مطعم الشهبندر في منبج، ووقعت مجازر أخرى نتج عنها فقدان حياة سبعة مدنيين خلال أسابيع قليلة.
وفي الـ19 من كانون الأول، استهدفت طائرة مسيّرة تابعة للاحتلال التركي موكباً مدنياً على الطريق الواصل بين صرين وسد تشرين جنوب كوباني، مما أدى إلى استشهاد الصحفيين جيهان بلكين، وناظم داشتان.
وفي الـ21 من كانون الأول، استهدفت طائرة مسيّرة سيارة على الطريق الواصل بين مدينة الهول وتل براك، مما أسفر عن استشهاد ثلاثة مواطنين من بينهم باسم الشدادي، وهو عضو مجلس مدينة تل براك، وعضوة قوات حماية المجتمع، عبير الخليف، وأحمد التمي، بينما أصيب بنيان حسناوي جدوع بجروح خطيرة.
وفي الـ22 كانون الأول، شهدت قرية جعدة استهدافاً مدفعياً من جيش الاحتلال التركي، مما أدى إلى استشهاد الأم سوسن خلف وطفلتها نسيم خلف.
وفي الـ27 من كانون الأول، هاجم مسلحون بلدية الشعب في بلدة تشرين في مقاطعة الرقة، مما أدى إلى استشهاد الحارس محمود مسلم.
وفي الـ31 من كانون الأول، استهدفت دولة الاحتلال التركي المتمركزة على الحدود قرية قره موغ في الريف الشرقي لمدينة كوباني، مما أدى إلى إصابة الشاب محمد نعسان سعيد بجروح خطيرة.
مقاومة في مواجهة صمت المجتمع الدولي
كان 19 كانون الثاني، يوماً حزيناً شهد استشهاد الممثل والكوميدي جمعة خليل “بافي طيار”، أحد قامات المسرح الكردي المعروف، حيث توجه برفقة مجموعة من رفاقه وزملائه إلى سد تشرين لمؤازرة المدنيين المناوبين هناك. كان بافي طيار يتمتع بشعبية كبيرة، وكان دوماً يرفع من معنويات الأهالي ويؤكد أن سد تشرين هو سد المقاومة.
خلال وجوده على السد، كان يصر على أن مقاومة الاحتلال التركي تتطلب التلاحم والتضحية، وأكد عبر تصريحاته للإعلام أن سد تشرين هو رمز للنضال ضد الاحتلال، استشهد جراء الغارات التي شنتها طائرات المحتل التركي، ليفقد معه أهالي المنطقة رمزاً وطنياً.
استشهد مع بافي طيار خمسة آخرين من أبناء مدينة قامشلو، بينما أصيب 21 آخرين بجروح خطيرة. هذا الهجوم ليس الأول من نوعه، لكنه يشير إلى حجم المأساة التي تعاني منها المنطقة في ظل الاحتلال التركي. بفعل العدوان التركي على شمال وشرق سوريا، اُستشهد حتى الآن 57 مدنياً، إلى جانب استشهاد 81 مقاتلاً من قوات سوريا الديمقراطية، وارتكبت دولة الاحتلال مجازر عدة، كان آخرها مجزرة قافلة المدنيين التي توجهت لحماية سد تشرين.
ورغم هذا العدوان الوحشي، تواصل قوات سوريا الديمقراطية التصدي للمحتل التركي، متمسكة بأهدافها بتحقيق النصر وإبعاد المعتدين عن أراضيها، ويساندهم في ذلك أهالي شمال وشرق سوريا، بمقاومتهم وصمودهم في وجه ضربات المحتل التركي.
مع استمرار العدوان التركي، لا تزال قوات سوريا الديمقراطية تقف شامخة في وجه الاحتلال، مصممة على الدفاع عن أرضها ومواطنيها. لكن؛ القصف التركي المستمر واستهداف المدنيين على مرأى العالم كله، يعكس مدى الوحشية التي يواجهها المدنيون في شمال وشرق سوريا. ومع تضاعف الأعداد الكبيرة من الشهداء، تتصاعد التضحيات في معركة الحفاظ على الأرض والمياه، حيث يحاول الاحتلال التركي منذ أشهر التحكم بالمصادر المائية لأغراضه السياسية والعسكرية. ولكن إرادة الشعب القوية ومدى إصرارها من المحال أن تضعف.
في ظل ارتكاب هذه المجازر من قبل المحتل التركي وتعدياته وانتهاكات في المنطقة، ومساعيه لاحتلال المزيد من الأراضي السوري، يبقى الصمت سيد الموقف من الرأي العام والمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية، التي تقف موقف المتفرج دون إبداء أي إدانة فعلية وردع المحتل وإيقافه، ومحاسبته على جرائمه.