د. طه علي أحمد
مع دخول سوريا حِقبةً جديدةً يتطلَّع فيها السوريون لغدٍ يخلو من السلطوية التي تخلَّلت كافة مفاصل الدولة وألقت بظلالها على ميادين السياسة والثقافة والاجتماع …إلخ، تبدو الفريضةُ الغائبة هي الانتقال نحو “ذهنيةٍ ديمقراطيةٍ” جديدةٍ قادرةٍ على تجاوز إرث الماضي القريب.
والذهنيةُ الديمقراطيةُ المنشودة هي تلك التي لا تُميز بين المواطنين على أساس أصلهم العرقي أو انتماءاتهم المذهبية أو السياسية، إنها ذهنيةٌ تخلو من القوالب الثنائية التي يقول عنها المفكر عبد الله أوجلان بأنها قد تحكَّمت في فكر الإنسان وأضعفت المعنى وحرَّفته مثل “الذاتي/ الموضوعي”، “المثالي/ المادي”، “الفلسفي/ العلمي” وهي في مجملها ثنائيات عمل أنصارُ السلطويةِ على ترسيخها من أجل ديمومة وشَرْعَنة النظم السلطوية، إنها ذهنيةُ الصراع الأبدي المؤصِّلة للقمع والاستغلال وصولاً لإضعاف الكل وتوسيع الفجوات تمهيداً لتسلُّلِ أصحاب المصالح الخارجية كما نرى اليوم عندما نرصد مساعي أصحاب المشروعين الصهيوني والتركي الطوراني لنَهْبِ خيرات السوريين والتهام مستقبلهم.
وكغيرها من دول الشرق الأوسط، سقطت سوريا في شراك الطائفية الإكراهية التي كرَّسَت هيمنةَ جماعات عرقية أو مذهبية بعينها، فما بين “الطورانية” القائمة على سمو العرق الطوراني في تركيا، والتشيع الصفوي الذي كرَّس سمو الشيعة من أبناء العنصر الفارسي في إيران، والعروبيين في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تاهت الحقوق الثقافية لغالبية الأعراق المُشَكِّلة للشرق الأوسط من الكرد والأمازيغ والأذر والبلوش وغيرهم لتستفيق المنطقة على بركانٍ من المظالم الاجتماعية والثقافية التي فرَضَت نفسها بالتزامن مع الزلزال الذي يضرب السلطوية في الشرق الأوسط أخيراً.
فما أحوج السوريين إلى ذهنية مؤسساتية تحلُّ مَحَل القبلية والمذهبية؛ ذهنيةٌ تؤمن بالإدارة التشاركية وليس السلطة أو التسلّط ليجد أبناء الوطن لهم نصيباً في إدارة شؤونهم أيّاً كانت درجة ومستويات تنوعهم، تلك التشاركية التي تبدأ من الأسرة كبنيةٍ تحتيةٍ ووحدةٍ أساسية للمجتمع ومرآة عاكسة للبنية الفوقية من قيمٍ عُليا ومؤسسات لإدارة شؤونه، الأمر الذي يفرض تحرر المرأة بشكلٍ حقيقي على كافة تلك المستويات.
الذهنية المطلوبة إذن هي ذهنيةٌ أمميةٌ قائمةٌ على الرغبة في العيش المشترك، تلك الرغبة التي يضعها المفكر عبد الله أوجلان كشرطٍ أساسٍ لتشكيل أمةٍ ديمقراطيةٍ أصيلة يتصدى جميع أفرادُها بالتكاتف لأطماع القوى الخارجية ونبذ وكلائهم من الداخل. بعبارةٍ أكثر إيجازاً، فإن السوريين بات محتوماً عليهم أن يحولوا ثورتهم السياسية إلى ثورة ذهنية ومؤسسة تشاركية تتوسطها العدالة الاجتماعية كغاية عُليا.