د. طه علي أحمد
مع احتدام الأزمة وتصاعد العمليات العدوانية التي تؤجِّجها الحكومةُ التركيّةُ في شمال سوريا، وتحديداً حول “سد تشرين” ذي الأهمية الاستراتيجية، تُثار التساؤلات حول العُنف الذي يُميز الموقف التركي والرغبةَ “المُستميتة” في السيطرة على هذا المرفق الحيوي من خلال وكلائها في الداخل السوري مثل ما يُعرف بـ “الجيش السوري الوطني”، ورُغم الأهمية الاستراتيجية لموقع سد تشرين كونه يتوسط المسافة تقريباً بين مدينة حلب، ذات المكانة الخاصة في مدركات التيار القومي المتنفذ في تركيا، والحدود التركية (80 كم تقريباً)، فضلاً عن إمكانية استخدامه كمرتكزٍ للإمداد العسكري والدعم العملياتي لصالح قوات “الجيش السوري الحر” المدعوم من أنقرة في هجماته على قوات سوريا الديمقراطية، وهو ما يُفسَّر – بدرجةٍ كبيرة – حِرصَ الأتراك على المُضي نحو السيطرة على السد، لكن ذلك لا ينفصل عن أحد الأهداف الرئيسة لتركيا في الداخل السوري والمُتَمثل في إفشال أي تجربةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ كُرديةٍ في الشرق الأوسط، حتى وإن كانت في إطارٍ وطني مثل “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، والتي لم يخلُ خطابُها السياسي من الحرص على إبداء استعدادها للانخراط في عمليةٍ سياسيةٍ شاملةٍ، وديمقراطية عادلة، تضمن وحدة الأراضي السوريّة.
ما سبق يُحيلنا إلى واحدٍ من المفاهيم الحديثة في ميادين الحروب، وهو “حروب الجيل الرابع” والتي تتمحور حول التضييق على الخصوم عبر أدوات تتنوع بين السياسة والاقتصاد والثقافة…إلخ. ورغم تعدد أهداف هذا النمط من الحروب، لكن يبقى أبرزُها مُمَثَّلا في إغراق السلطة الحاكمة في سلسلةٍ متواصلة من الأزمات التي لا تنتهي وصولاً لإضعاف – إن لم يكن إسقاط – شرعيتها في المحصلة النهائية، ولتحقيق أغراضها، تعتمد حروب الجيل الرابع على عددٍ من الاستراتيجيات من بينها تأجيج حروب العصابات، واستخدام الجماعات الإرهابية، ودعم الاحتجاجات الفئوية، وتوظيف وسائل الإعلام (التقليدية والحديثة)، بجانب ضرب البنية التحتية للمرافق الحيوية التي ترتكز عليها المجتمعات لإغراقها في الفوضى وتمردات لانهائية ضد فشل السلطة الحاكمة في تلبية احتياجات المواطنين التنموية والسياسية وغيرها.
وبمتابعة السياسات التركية في سوريا على مدار السنوات الأخيرة، والتي اتخذت العديد من المسارات العسكرية وغير العسكرية، نجد أصداء ذلك من خلال الغارات التي شنَّتها الطائرات المسيّرة التركية على محطات المياه وتوليد الكهرباء في مناطق عديدة بشمال سوريا مثل قامشلو وعامودا والدرباسية وغيرها، ولعل في ذلك ما يخدم هدفاً أبعد يتمثل في التضييق على حياة المواطنين وخلق شعورٍ بعدم قدرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا على تلبية احتياجاتهم، وصولاً للخروج عليها وإفشال التجربة بالأساس.
هنا، وبجانب الرغبة في السيطرة الاستراتيجية للأغراض العسكرية، تبرز أهمية سد تشرين، الذي يحتوي على أكبر بحيرة صناعية في سوريا (يحتجز خلفه نحو 110 مليار متر مكعب)، ويحتوي على محطةٍ لتوليد الطاقة الكهرومائية بما يُقدّر بنحو 105 ميغاواط (يمكن أن تصل لـ 630 ميغاواط)، كما يزوّد الشمال السوري بمياه الري والشرب بما يجعله شريان حياة أساسية للسكان والزراعة وغيرها. وعليه، يضع الأتراك في قلب استراتيجيتهم فرض المزيد من الأعباء والضغوط على الإدارة الذاتية من خلال المشكلات الناجمة عن فقدان قوات سوريا الديمقراطية السيطرة على سد تشرين، الأمر الذي يُعزز أهمية المقاومة الشعبية – بجانب العسكرية – ووضعها كخيارٍ استراتيجي بالنسبة للسوريين.