يخرج علماء النفس، من حينٍ إلى آخر، بطرق جديدة لعلاج المتاعب النفسية والتوترات التي تزايدت في المجتمعات نتيجة ضغوط الحياة العصرية وتعقيداتها.
وبعيداً عن العلاج بالأدوية والمهدئات ظهرت مدارس العلاج بالموسيقى وممارسة الرياضة أو بالرسم أو التأمل الروحي، لتحقيق الهدوء النفسي والسكينة، وهو ما يساعد على تحقيق الاستقرار النفسي وعيش الحياة بتفاؤلٍ وأمل.
ومن أحدث الوسائل التي لجأ إليها الخبراء لتخفيف الضغوط النفسية ومواجهة القلق والانفعالات السلبية العلاج بالكتابة، وهي لا تتطلب أن يكون الشخص ماهراً في كتابة النصوص أو يتصف بالبلاغة واختيار الكلمات المؤثرة، وإنما هي محاولات للتعبير عما يُجيّش في صدر المرء من خواطر أو هواجس أو أفكار سلبية تعوقه عن تحقيق النجاح في الحياة.
وهذا الأسلوب العلاجي لا يُكلف المرء شيئاً ولا يستغرق وقتاً طويلاً، ويعطي نتائج سريعة، ويمكن تطبيقه في أي مكان، كما يمكنه أن يُحسّن الصحة النفسية للإنسان، ويتردد أن العلاج بالكتابة، أو ما يسمى بالكتابة العلاجية، يساعد الناس على الاتصال بالزوايا المخفية في اللاوعي الخاص بهم والتي يصعب التعامل معها. كبار الرياضيين يستفيدون منذ فترة طويلة من التخيل الذهني، أي من خلال تصورهم لأنفسهم وهم يؤدون بنجاح مهارة ما أو استراتيجية معينة.
وتقول الدكتورة أداك بيرمورادي، المحللة النفسية المتخصصة في الطب النفسي والجسدي بمستشفى شاريتيه ببرلين، “وسيلة العلاج بالكتابة هي بداية لعملية تنتهي بإتاحة معرفة أفضل لنفسك”.
وتوضح إن هذه العملية يمكن أن تؤدي إلى إدراكات للذات مؤلمة، حيث “إننا جميعا لدينا جوانب من أنفسنا لا نشعر بأنها إيجابية، أو نشعر بأنها تزعجنا”.
بينما تقول دوريس هونيج المعالجة المعتمدة باستخدام وسيلة الكتابة “إن هذا النوع من العلاج يمكن أن يطبق على أي شخص يريد رؤية أوضح لذاته”. وتضيف أنه يمكن أيضاً أن يساعد الأشخاص الذين يمرون بأزمة منتصف العمر، أو الذين يعانون من مرض ما أو الذين فقدوا أحد أفراد أسرتهم.
وتوضح أداك أن هذا الأسلوب العلاجي يفيد الأشخاص المناسبين له؛ أي الأشخاص الذين يحبون التعبير عن أنفسهم ويستمتعون بالتعبيرات اللغوية ولا يجدون صعوبة في الكتابة باليد.
وتؤكد على أنه ينبغي الإشراف عن كثب على الأفراد الذين يخضعون لهذه النوعية من العلاج، وتشير إلى أن المرضى الذين يعانون من اضطرابات شديدة مثل اضطراب ما بعد الصدمة، يحتاجون إلى رعاية علاجية نفسية بالتوازي مع ممارسة العلاج بالكتابة.
كما تؤكد أداك بيرمورادي إن الكتابة العلاجية مع ذلك تُعدُّ طريقة جيدة جداً للتعامل مع الاضطرابات، خاصةً الاكتئاب، وأيضاً للتخفيف عن الذين يتلقون علاجاً لمرض السرطان.
وتشير دوريس هونيج إلى أن كل ما يحتاجه المرء لممارسة هذا العلاج هو بعض الأوراق أو مفكرة وقلم حبر أو قلم رصاص، وتوصي بالكتابة باليد موضحة إنها “عادةً ما تكون أكثر بطئاً من الكتابة على الكمبيوتر، كما أنها تمنح العقل الباطن وقتاً للعمل”، وتقول “إن طريقة الكتابة باليد لا تغري كثيراً بإجراء تعديلات أو إنتاج نص مستكمل”.
وترى دوريس أن سبب فاعلية العلاج بالكتابة لا يزال غامضاً إلى حدٍ ما، بالرغم من الدراسات التي أجريت بشأن هذه الظاهرة، وتقول إن أصولها ترجع إلى الكتابة التعبيرية وهي شكل من أشكال العلاج بالكتابة طوره بشكلٍ رئيسي جيمس بنيبيكر، وهو الآن أستاذ فخري في علم النفس بجامعة تكساس في مدينة أوستن.
ودوّن بنيبيكر العديد من الكتب عن الكتابة التعبيرية مع نصائح وإرشادات، واكتشف من خلال عمله مع الطلاب أن الكتابة عن التجارب المؤلمة تساعد على التعايش والتكيف معها، كما تبين له أنها تساعد على تقوية جهاز المناعة، لأنها تجعل القائمين بالكتابة أكثر استرخاءً وتفاؤلاً وسكينة.
الأسلوب العلاجي بالكتابة لا يكلف المرء شيئاً ولا يستغرق وقتاً طويلاً، ويعطي نتائج سريعة، ويمكن تطبيقه في أي مكان
وتوضح أداك بيرمورادي أن الكتابة تشتت انتباهنا، وتقول “إنها تشغل المخ للحظة ونحن نستخدم هذه الوسيلة من أجل الوصول إلى حالة اللاوعي”.
وتتابع أنه في حالة اليقظة يعمل المخ بشكلٍ مماثل للطريقة التي يعمل بها وقت الأحلام، فيتم تنشيط مناطق مماثلة وإنشاء صور، “وبذلك نستطيع التدريب على الأشياء من خلال تخيلنا، وهذا لا يعني على الإطلاق أن يكون بشكلٍ خفي”.
كما توضح أداك بيرمورادي أن كبار الرياضيين يستفيدون منذ فترة طويلة من التخيل الذهني، أي من خلال تصورهم لأنفسهم وهم يؤدون بنجاح مهارة ما أو استراتيجية معينة، بحيث يؤدونها جسدياً على أرض الواقع في وقتٍ لاحق بنجاح، كما يمكن أيضاً تخيّل أشياء معينة أثناء الكتابة، وهذا يمكن أن يساعد المرء على السيطرة على حياته وتشكيلها بإرادته.
ويتمثل أحد أنواع العلاج بالكتابة فيما يُعرف باسم الكتابة الحرة، وهناك نوع آخر أكثر تنظيماً وهو محكوم بموضوعات محددة، وفي النوع الأول يبدأ الفرد بتدوين أفكار ما تراود ذهنه ثم يكتب كل ما يخطر بباله، مثلاً يمكن أن تكون رسالة لا يرسلها أبداً ولا يقرأها أحد، موجهة على سبيل المثال إلى شخص تشاجر معه، أو إلى شخص متوفى أو إلى ورم سرطاني أصيب به أو لنفسه.
ويمكن أن تتمثل طريقة أخرى كالتالي: يكتب المريض الذي يتصادف أنه يشعر بالغضب في الوقت الحالي كلمة “غضب” في منتصف ورقة، ثم يكتب حولها مجموعة من الكلمات المناسبة.
وتقول دوريس هونيج إنه مهما كانت الطريقة التي يتم اختيارها –والطريقة تتوقف على الذوق- لا يجب على المريض أن يصدر حكماً على ما يكتبه، أو أن يفرض رقابة ذاتية عليه، ويجب محاولة عدم التفكير في القواعد اللغوية الصحيحة في الكتابة أو هجاء الكلمات، ومن المهم أن يمضي عشر دقائق على الأقل في محاولة الكتابة.
وتتفق كل من دوريس هونيج وأداك بيرمورادي على أنه قد يكون من المفيد جعل الكتابة مسألة روتينية، من خلال تخصيص عشر دقائق على سبيل المثال لتدوين الأفكار كل صباح أو مساء، أو تحديد هدف كتابة صفحتين يومياً، سواء طرأ شيء على الفور يستحق الكتابة عنه أم لا، وتؤكد دوريس هونيج أنه “كلما مارس الشخص ذلك بانتظام بدرجة أكبر، أصبح الأمر أكثر سهولة بالنسبة إليه”.