عبد الرحمن ربوع
تغيّر مجتمعي كبير تشهده سوريا اليوم. تغيّر يشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية مُساقًا بالتغيّر السياسي الجذري بعد هروب بشار الأسد وهروب رموز نظامه السياسيين والعسكريين والأمنيين والاقتصاديين.
نُخبة الدرجة الأولى بمعظمها أخلت الساحة بالكامل، وتركت الجمل بما حمل ليجد أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) نفسه مُتربعًا في قصر الشعب على عرش الأسد حتى دون أن تكتمل سيطرته أو تحضر حاشيته.
انهيار قياسي
لم يكن أحد في سوريا ليُصدق أن فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام تستطيع الوصول إلى دمشق في عشرة أيام، سواء من إدلب أو من درعا، حتى من شاركوا في العملية العسكرية التي أُطلق عليها اسم “ردع العدوان” كانت غايتهم صد هجوم متوقع لقوات الأسد والمليشيات الإيرانية، وأقصى ما تمنّوه هو الوصول إلى طريق حلب دمشق (M5) دون أن تكون “سراقب” في المخطط أو الحسبان.
لكن قوات النظام المشغولة بإنتاج المخدرات وتصديرها، والمليشيات الإيرانية التي أنهكها القصف الإسرائيلي المتواصل على مدى سنة وشهرين، ومقاتلي حزب الله اللبنانيين الذين سقطوا ضحايا ومصابي موقعتي “البيجر” و”اللاسلكي”. وعودة من تبقى منهم إلى لبنان للملمة جراحهم، ورفع أنقاض بيوتهم، والبحث عن رفاقهم المدفونين في المخابئ والأنفاق.
كل هؤلاء كانوا في شُغل عن عملية “ردع العدوان” التي لم تستطع المجازر التي ارتكبها الطيران الروسي بحق المدنيين والمشافي في إدلب ثنيها عن قرارها بالتقدم والسيطرة على كل الأرض المكشوفة أمامها، ولم يلبثوا أن دخلوا حلب خلال أربعة أيام متجاوزين كل تحصينات قوات الأسد خصوصًا بعد الانسحابات المتوالية التي نفذتها قوات الأسد وحلفاؤها تحت ضغط ضربات مسيّرات “الشاهين” المركزة التي استهدفت القيادات والمواقع بدقة متناهية ودبَّ الرعب في صدور قوات الأسد.
الطريق إلى دمشق
وبعد حلب، انفتحت الشهية للتوسّع وسقطت حماة، وحوصِرت حمص، ودبَّت الحميّة في صدور فصائل حوران، وانطلقت المجموعات المسلحة تحرر مدنها وقراها وتبادر لاستعادة حلم دخول دمشق الذي تم إحباطه في 2014 و2015 بسبب تهديدات أمريكية (قصة أخرى ربما نحكيها لاحقًا)، وبالفعل دخلت فصائل حوران دمشق التي كانت مستعدة لاستقبال المجموعات وشارك الأهالي في دخول المجموعات إلى قلب دمشق، وهربت قوات الأسد بعد هروب قادتها واختفائهم وتواريهم عن الأنظار بعد انتشار أخبار قبل أيام إن كبار الضباط هرّبوا عائلاتهم إلى لبنان والإمارات وروسيا والعراق.
لتترك “ردع العدوان” حمص محاصرة، ويبادروا للانقضاض على دمشق، ويستولوا على مؤسسات الدولة ومنها الإذاعة والتلفزيون وتتراجع فصائل حوران منها ويدخل الشرع الجامع الأموي ويخطب في الناس مُعطيًا لهم الأمان ومبشرًا بعهد جديد تحت قيادته.
ثم تقوم بقية المجموعات بدخول بقية المواقع في حمص وحماة والساحل.
وبالتوازي شنت مجموعات المرتزقة التابعة لتركيا ما تسمى بعملية “فجر الحرية” محاولة استخدام الزخم العسكري في سوريا والدعم التركي غير المحدود للسيطرة على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لكن يبدو أنها ليست في حسابات هيئة تحرير الشام أو الجولاني، فما أن التقى قادة “فجر الحرية” مع “ردع العدوان” حتى دبَّ الخلاف بينهم، بعد أن طالبهم الجولاني بحل الجيش الوطني والانضمام للجيش السوري الذي يعتزم تأسيسه بديلاً عن الجيش العربي السوري الموالي للأسد، والذي تم إعلان انتهائه مع هروب واستسلام آخر مجموعاته يوم الأحد الثامن من كانون الأول الجاري.
موسم الغنائم
ومع استتباب الأمر نسبيًا للجولاني في دمشق برزت الحاجة الماسّة لإعادة توحيد سوريا. سوريا التي لا تقبل أن يحكمها تنظيم القاعدة، لأن ذلك يتنافى مع أبسط مسلمات التعايش الوطني في سوريا، كما يتنافى مع المنطق السياسي والدبلوماسي السائد في الإقليم، فضلاً عن حاجة سوريا في المرحلة المقبلة للتعامل مع كل دول العالم والمجتمع الدولي طلبًا للدعم الضروري لإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين وملاحقة مجرمي الحرب الذين فرّوا من سوريا.
فهيئة تحرير الشام منظمة إرهابية في القانون الدولي، وكذلك قادتها وعناصرها وكانت هناك جائزة أمريكية لرأس الجولاني نفسه، فكيف يستقيم للسوريين أن يستمر الحال على هذا المنوال خصوصًا وأن كل التصرفات التي يقوم بها الجولاني وهيئته وحكومته لا تشي بانفتاح على السوريين، ولا على الحقوق ولا على الحريات.