كاوە نادر قادر
في خِضم الصراعات الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً الأزمة السوريّة، يبرز الخطاب السياسي التركي كعامل محوري مثير للجدل. تتسم السياسة التركية تجاه قضايا المنطقة بازدواجية واضحة، حيث تجمع بين أهداف أيديولوجية دينية (الإخوانية) واستراتيجية قومية (العثمانية الجديدة) تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية على حساب الاستقرار الإقليمي. وعلى الرغم من رفض العديد من الأطراف، سواء دوليّة أو محليّة، لهذا الخطاب، إلا أن الاعتراض عليه غالبًا ما يكون مدفوعًا بالمصالح وليس بمبادئ حقيقية، مما يُثير تساؤلات حول جدية الانتقادات الموجهة لأنقرة.
ازدواجية الخطاب التركي: بين الشعارات والمصالح
يعتمد الخطاب التركي على مزيج متناقض من الشعارات الأيديولوجية والنزعات القومية، ففي حين تدّعي تركيا أنها تسعى لحماية مصالحها الأمنية والحفاظ على وحدة أراضيها، تعكس سياساتها على الأرض أجندة توسعية تهدف إلى تحقيق الهيمنة الإقليمية. يتجلى هذا بوضوح في تدخّلها العسكري في روج آفا، حيث سعت إلى إنشاء “منطقة آمنة” بعمق 30 كيلومترًا على طول الحدود السوريّة – التركية. هذا المشروع، الذي تسوّقه تركيا كإجراء أمني، يراه الكثيرون محاولة لتوسيع نفوذها الجغرافي والسياسي على حساب الأطراف المحلية والإقليمية.
اعتراض شكلي: المصالح أولًا
رغم أن الخطاب التركي يواجه انتقادات واسعة من عدة أطراف دولية وإقليمية، إلا أن هذه الانتقادات غالبًا ما تكون مدفوعة بالمصالح الذاتية للمنتقدين بدلًا من اعتراض مبدئي، فعلى سبيل المثال، الدول التي تعارض التدخّل التركي في سوريا غالبًا ما تفعل ذلك لأنها ترى في التوسع التركي تهديدًا لمصالحها الخاصة وليس بالضرورة دفاعًا عن المبادئ.
نلاحظ أن الأطراف التي تعارض تركيا في بعض الملفات قد تتحالف معها في ملفات أخرى، فعلى سبيل المثال، تدعم بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مواجهة تركيا، لكنها في الوقت ذاته تعتمد على أنقرة كحليف رئيسي في حلف الناتو. هذا التناقض يعكس غياب رؤية متسقة لدى المجتمع الدولي تجاه السياسة التركية.
الأجندة الخفيّة وراء الخطاب التركي
تستخدم تركيا خطابًا يعتمد على شعارات مثل “الأمن القومي” و”حماية اللاجئين” لتبرير تدخلاتها الإقليمية، لكن هذا الخطاب يخفي أجندة أعمق تتعلق بتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية استراتيجية. على سبيل المثال:
- الأهداف الأمنية: تبرر تركيا تدخّلها في شمال وشرق سوريا بمواجهة خطر قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتحقيق مكاسب إقليمية، مثل السيطرة على مناطق غنية بالموارد الطبيعية.
- التغيير الديموغرافي: عملت تركيا على تغيير التركيبة السكانية في المناطق التي تدخّلت فيها عسكريًا، حيث تسعى لإعادة توطين اللاجئين السوريين في تلك المناطق، هذه الخطوة تُحدِث واقعًا جديدًا يخدم مصالحها على المدى الطويل، ويؤدي إلى تغييرات ديموغرافية قد تُعمّق الانقسامات الطائفية والعرقية.
غياب الجدية في الاعتراض الدولي
رغم كثرة الانتقادات الموجهة للخطاب التركي، فإنها غالبًا ما تفتقر للجدية اللازمة لإحداث تغيير فعلي، ومن أبرز أسباب ذلك:
غياب الضغط الحقيقي: تكتفي الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، بتوجيه انتقادات لفظية لأنقرة دون اتخاذ خطوات ملموسة، مثل فرض عقوبات أو ممارسة ضغوط دبلوماسية حقيقية.
تغليب المصالح: التحالفات مع تركيا، خاصةً في ملفات مثل الهجرة ومكافحة الإرهاب، تجعل الدول الغربية تتردد في اتخاذ مواقف صارمة.
ازدواجية المواقف العربية: حتى بعض الدول العربية التي تنتقد السياسات التركية في سوريا أو ليبيا تبقى متحالفة معها في مجالات أخرى، مثل الاقتصاد والطاقة، مما يعكس تناقضًا واضحًا في سياساتها.
الاستنتاج
في النهاية، يظل الخطاب التركي غير مُرحب به من قبل العديد من الأطراف، لكنه ينجح في تحقيق أهدافه بفضل غياب المعارضة الجادة. الاعتراضات على هذا الخطاب غالبًا ما تكون شكلية وغير مبدئية، لأنها مدفوعة بالمصالح الذاتية وليس بمبادئ واضحة.
إن استمرار هذه الازدواجية في المواقف الدولية تجاه تركيا يهدد بمزيد من التصعيد والتوتر في المنطقة، ما لم تتخذ الأطراف المعنية مواقف حازمة تعطي الأولوية للاستقرار الإقليمي على المصالح الضيقة.