نظراً لأهمية موقع دير الزور والثروات الموجودة فيها، والمشروع الديمقراطي الذي تبناه أهلها، أصبحت محط تنافس إقليمي، يخطط كل طرف إلى جعلها ساحة للفوضى، وبيئة غير آمنة، فيما الإدارة وبجانبها مجلسها العسكري يمثلان دور الحامي لمكتسبات شعبها.
تستعرض صحيفتنا “روناهي” عبر هذا الملف تسلسل الأحداث في دير الزور منذ العام 2011 وحتى اليوم؛ مع تسليط الضوء على الأبعاد الجغرافية والديموغرافية للصراع الدائر؛ في محاولة لبناء تصور عام وتقدير الموقف.
يحاول هذا الملف “تقدير الموقف” في دير الزور بعد الهجمات الأخيرة التي طالت المدنيين؛ من خلال تقديم عرض لتسلسل الأحداث في دير الزور منذ بداية الحراك في سوريا أوائل العام 2011 وحتى اليوم؛ مرورا بالعديد من المحطات -التي لابد من ذكرها حتى تكتمل الصورة – عبر تسليط الضوء على القوى التي تحاول جاهدة خلخلة استقرار هذه المنطقة التي تتمتع بتشكيل ديموغرافي بالغ الحساسية.
الجغرافيا والديموغرافيا
يخترق نهر الفرات دير الزور من الشمال الغربي نزولاً إلى الجنوب الشرقي؛ حيث يقسم النهر دير الزور جغرافياً وديموغرافياً إلى قسمين:
الجزيرة: وتتكون من عدة مدن وبلدات؛ أبرزها البصيرة، وأبو حمام، والشحيل، وهجين، وذيبان، والغرانيج، والشعفة، والسوسة، إضافة لعشرات القرى والبلدات الأخرى، وجميعها تقع بريف دير الزور الشرقي، ومدن الكسرة وقرى الحصان، والجنينة إضافة لعشرات القرى الأخرى وجميعها تقع بريف دير الزور الغربي.
الشامية: وتقع جنوب نهر الفرات وأبرز مدنها مدينة دير الزور وموحسن، والميادين، والقورية، والعشارة، والبوكمال، وعشرات المدن، والقرى وجميعها في الريف الشرقي، وكذلك عشرات القرى بالريف الغربي.
يقسم نهر الفرات عشائر المنطقة وهي البنية الأساسية للمجتمع في دير الزور إلى تجمعات متقابلة، وتكاد تكون متناظرة، إذ تتوزع القبائل والعشائر على طرفي النهر، وتعدُّ قبيلتا العكيدات والبكارة أكبر قبائل المنطقة إضافة لعشائر أخرى إما تنضوي تحت مسمى هاتين القبيلتين، أو توجد كعشائر صغيرة مستقلة، إذ قد تجد قريتين على طرفي النهر وهم أبناء عمومة ينتميان للعشيرة نفسها، ويفصل بينها نهر الفرات مثل القورية والطيانة، وهما ينتميان لعشيرة الكرعان، والعباس والبحرة وينتميان لعشيرة الدميم، أبو الحسن والرمادي وينتميان لعشيرة البوحسن، وغيرها في الكثير من القرى، ويقود مشيخة العكيدات – تاريخياً – بيت الهفل، بينما مشيخة البكارة هي في بيت البشير.
دير الزور 2011
انخرط أبناء دير الزور في الحراك المدني مع انطلاق الثورة السورية، عبر المظاهرات والنضال المدني؛ المتضمن إنشاء تجمعات شبابية ونشاطات معارضة، وكانت منطقة الجزيرة حاضرة بقوة في المظاهرات في عدة مدن وبلدات، لكن هذه المظاهرات اتخذت شكلاً مدنياً فردياً ولم تكن بشكل تشكيل أو تجمع عشائري، وإنما كانت نتيجة لتنسيق عدد من الشبان الذين تربطهم الحالة الثورية لا القرابة العشائرية، لذلك لم يكن لموقف بيوت المشيخة أي تأثير على من قرر الخروج بالمظاهرات، وإنما كان تأثيرها واضحاً على البيئة التي تقع في المنطقة الرمادية بموقفها من الثورة.
كان لبعض زعماء القبائل والعشائر دور واضح في دعم الشباب المتظاهر من خلال الوقوف إلى جانبهم أو استخدام نفوذهم كمشيخة للعشيرة للإفراج عن المعتقلين على سبيل المثال، اذ مارس بعض شيوخ العشائر نفوذهم لدى حكومة دمشق للإفراج عن بعض المعتقلين ومارسوا نوعاً من الوساطة لفك الحصار عن بعض المناطق.
فيما شارك بعض الشيوخ والوجهاء في المظاهرات بشكل مباشر، كما انشق عدد من أعضاء بيت المشيخة عن حكومة دمشق من مواقع حساسة؛ سياسية كانت أو عسكرية، إلا أن حراك أبناء بيوت مشيخات القبائل ظل إلى حد بعيد رهين حسابات دقيقة؛ الأمر، الذي اقتصر على بعض الحراك، الذي اتسم بصور فردية ولم ينتقل إلى هذه المشيخة، أو تلك كشكل عائلي قادر على تبني نهج واضح.
العمل المسلح والبُعد القبلي
بعد تحول الحراك الثوري إلى العمل المسلح نتيجة تدخل العديد من الدول وعلى رأسها الاحتلال التركي؛ ناهيك عن دور كبير لبعض دول الخليج؛ تراجع دور المشيخة بشكل أكبر، وذلك بظهور قوى جديدة تمتلك القوة والدعم الشعبي والمادي وأصبح قادة المجموعات المسلحة ينافسون دور شيوخ العشائر الذي انكفأ، خاصة أولئك الذين لم يدعموا الحراك منذ البداية بشكل واضح وصريح، أو الذين وقفوا إلى جانب حكومة دمشق بشكل مباشر، إذ غادر معظمهم إلى مناطق سيطرة الحكومة أو حتى خارج البلاد خوفاً من مواقف القوى الجديدة منهم، فيما بقي آخرون وقد التزموا الصمت حيال ما يحدث.
خلال العام 2012، خرجت دير الزور بشكل شبه كامل من سيطرة حكومة دمشق؛ إذ خرجت قوات الحكومة مما يقارب الـ 90% من مساحة دير الزور، لكن التشكيلات المسلحة “الفصائل التي تم تشكيلها تحت مسمى الجيش الحر” كانت قد تحولت لتشكيلات عشائرية بنسبة كبيرة، إذ أصبحت “الألوية والكتائب” تتشكل في معظمها من أبناء العشيرة الواحدة، ضمن سياقٍ طبيعي في حالات الفوضى والنزاع المسلح في المجتمعات.
مع هدوء الجبهات وانتزاع حقول النفط خاصة في منطقة الجزيرة من حكومة دمشق، تحول التنافس لدى بعض القوى المسيطرة على الأرض للسيطرة عليها، وبالتالي فرض سلطة جديدة في المنطقة تخضع للقوة والمال، خاصة أنها تقع في أراض ذات بيئة عشائرية تنتمي لها الفصائل، وأدت هذه السيطرة لأن تشهد المنطقة طفرة مالية واضحة “خاصة منطقة الجزيرة”.
النفط.. جاذب المتصارعين
أغرى وجود النفط قوى أخرى للسيطرة على دير الزور؛ حيث بدأ الصراع باكراً مع مرتزقة جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام حاليا” والتي تقاسمت السيطرة منذ منتصف العام 2013، مع “الجيش الحر” على معظم المنطقة شمال نهر الفرات (الجزيرة)، والتي تتواجد فيها آبار النفط ومساحات واسعة من (الشامية)، ولم تستقر المنطقة حتى بدأ ظهور مرتزقة داعش، حيث دارت معارك معها لمدة سبعة أشهر متتالية.
خسر أبناء المنطقة أكثر من ألف ضحية في القتال ضد مرتزقة داعش؛ ولعل أبرز مجازر المرتزقة كانت مجزرة الشعيطات، التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء العشيرة، الأمر الذي دفعها لترك أرضها.
استمر القتال حتى منتصف العام 2014، حيث سيطرت مرتزقة داعش بشكل كامل على المنطقة، وقامت عبر سياستها بالاستهداف المباشر بتفريغ المنطقة من نخبها وقياداتها ونشطائها بين تهجير واعتقال وقتل، كما أفرغت مرتزقة داعش المنطقة من الفصائل التي كانت موجودة فيها.
قسد وعمليات التحرير
شكلت الفترة الممتدة من منتصف العام 2014 حتى منتصف العام 2015، تغيرات محورية في المشهد السوري عموماً، مع حدوث التدخل الروسي المباشر، إلى جانب تشكيل قوات سوريا الديموقراطية التي ضمت عددا من القوى الكردية، والعربية، والآشورية، والسريانية وغيرها من الشعوب، وعقب تشكيل قسد؛ بدأ العمل على تشكيل مجالس عسكرية منفصلة لعدة مناطق، مثل مجلس دير الزور العسكري، ومجلس هجين العسكري، وذلك لقتال مرتزقة داعش في المنطقة، والذي بدأ نهاية العام 2017.
انضم أبناء دير الزور إلى قوات سوريا الديمقراطية متمثلة بمجالسها العسكرية؛ حيث أسهموا بشكل فعال في معارك التحرير، التي قادتها قسد ضد مرتزقة داعش في المنطقة؛ حيث تم استكمال عمليات التحرير، والقضاء على مرتزقة داعش في آذار من العام 2019.
ومع تحرير المنطقة؛ بدأت الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بمساعدة أبناء المنطقة، (التي تحولت إلى مقاطعة فيما بعد) على بناء مؤسساتهم المدنية، والسياسية والعسكرية؛ كما شهدت الأرياف المحررة في دير الزور نهضة من بين ركام الحرب؛ عبر إنشاء المجالس المحلية؛ التي أخذت على عاتقها تقديم الخدمات للأهالي.
في السياق ذاته؛ كان للمرأة والفئة الشابة دور بارز في الحراك المجتمعي الذي أعقب عمليات التحرير؛ حيث شارك الجميع في إدارة شؤون المنطقة عبر أصغر الخلايا التنظيمية، ووصولا إلى أكبرها؛ وقد أولت الإدارة الذاتية منطقة دير الزور عناية خاصة في المستويات كافة.
الخطر المستمر
إلا أن خطر مرتزقة داعش؛ وتدخلات حكومة دمشق في المنطقة؛ أقض مضاجع أبنائها؛ فيما عملت قوات سوريا الديمقراطية على ملاحقة الخلايا النائمة لمرتزقة داعش؛ واستطاعت القضاء على أعداد كبيرة منها.
في سياق آخر؛ وامتدادا للبناء المجتمعي والقضاء على الفساد؛ أقالت قوات سوريا الديمقراطية عددا من أعضاء مجلس دير الزور العسكري في العام 2023 بناءً على شكاوى الوجهاء والأهالي؛ إلا أن حكومة دمشق والمسلحين التابعين لها حاولا استغلال الفرصة للهجوم على المنطقة؛ إلا أن قوات سوريا الديمقراطية ومجلس دير الزور العسكري ومجلس هجين العسكري؛ استطاعوا كسر المؤامرة التي قادتها حكومة دمشق؛ والتي حاولت من خلالها بث الفتنة بين شعوب المنطقة.
قوات حكومة دمشق ومسلحوها وغيرهم؛ استمروا في الهجمات على أرياف دير الزور الشرقية؛ انطلاقا من مواقعهما في الضفة الغربية لنهر الفرات؛ أو من خلال عمليات التسلل التي يقوم بها عناصرها بين الفينة والأخرى؛ بهدف الإخلال بأمن دير الزور وبث الرعب في نفوس الأهالي.
هذه الهجمات ازدادت وتيرتها في الفترة الأخيرة (آب من العام 2024) الأمر الذي استدعى قوات سوريا الديمقراطية تجديد عهدها بحماية أبناء المنطقة من خلال التصدي لهذه الهجمات التي طالت السكان الآمنين وأدت إلى ارتقاء عدد كبير من الشهداء المدنيين في قريتي الدحلة وجديد بكارة بعد تساقط العشرات من القذائف على منازلهم.
فيما لازالت هذه الهجمات مستمرة – حتى لحظة إعداد هذا الملف – وسط دعوات متزايدة من شيوخ ووجهاء القبائل العربية وأبنائها لضرورة الالتفاف حول قوات سوريا الديمقراطية ومشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا؛ لمواجهة المشاريع الهادفة إلى بث القتنة بين أبناء المنطقة (العرب والكرد على وجه الخصوص) والتي تقودها المجموعات المسلحة التابعة لحكومة دمشق بتنسيق مباشر مع دولة الاحتلال التركي ومرتزقة داعش وبعض الدول الإقليمية الأخرى.
خاتمة ورأي
ختاماً؛ بدا جلياً خلال المراحل المتعددة التي مرت بها دير الزور، التي تحوي تكوينا قبليا فائق الحساسية؛ أنها شكل أساسي من أشكال الاستقرار والتحاق المنطقة بالمشروع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا.
كما ستحاول بعض الجهات الممثلة بالدفاع الوطني والمجموعات المسلحة التابعة لحكومة دمشق استغلال حالة عدم الاستقرار من أجل افتعال مخاطر أمنية، واغتيالات تؤجج الصراع في دير الزور؛ وهو الأمر الذي يجب أن يعيه أبناؤها؛ كما يقع على عاتق الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا العمل بجد أكبر على تفويت أي فرصة لدق إسفين بين شعوب منطقة دير الزور التي تعد – وفق الرؤى السياسية، زاوية رخوة لمتاخمتها مناطق حكومة دمشق – وذلك من خلال العمل على القضاء على أشكال التدخلات من حكومة دمشق ومسلحيها في المنطقة؛ وفرض حالة الأمن والاستقرار؛ الأمر الذي يزيد ثقة أبناء دير الزور بإدارتهم ومشروعهم الديمقراطي.