سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رحلة إلى الماضي … ذكريات الزمن الجميل

قامشلو/ دعاء يوسف –

تميز الآباء والأمهات والأجداد في الماضي بقدرتهم على التكيف مع المواسم وفصول السنة، في لوحة فسيفسائية رسمت معالم تكاتفهم التي مازالت حاضرة حتى يومنا هذا، وتبقى تلك الذكريات تحفر نفسها في قلوبنا رغماً عنا. 
سكان أهل الجزيرة لا يستسلمون بسهولة ويبحثون عن الأمل والمستقبل، الذي أوصلهم إلى توحيد الشعوب، وفطرياً استغل أهل الجزيرة الظروف المناخية والبيئية أحسن استغلال، فعملوا بالزراعة وحولوا الأراضي القحلة إلى مروج خصبة، سكنوا بالقرب من روافد نهر الفرات والخابور، والبليخ.
وتحمل الأيام الماضية ذكريات وبصمات جميلة لا يستطيع الإنسان نسيانها مهما مر وقت أو زمن، فما أجمل تلك الأيام! التي عاشها أهالي مقاطعة الجزيرة، حيث وجدوا في حرارة الصيف جمالاً، وبرودة الشتاء دفئاً ومحبة.
مارسوا الزراعة البعلية في مناطقهم وأراضيهم، بأنواع متعددة من الحبوب، وخاصة القمح، وفي المناطق الجنوبية الشحيحة بالأمطار تعتمد يزرع فيها القطن؛ لأنه يعتمد على الزراعة المروية، ويمثل رعي الأغنام والماعز، والأبقار، والإبل عاملا مهما في حياة كثير من سكان الجزيرة.
وقد اهتم أهل الجزيرة بتربية الدواجن والأحصنة الأصيلة والبغال، لنقل الأمتعة، وتميزت منازلهم ببساطة الفرش فمنهم من سكن الخيام، ومنهم من سكن البيوت الطينية، يلمهم كرم نبيل ونسب شريف.
ذكريات 
وطقس الصيف الحار، الذي يتذمر منه الأهالي في وقتنا هذا، لا يكاد يشعر به سكان الجزيرة حتى يتذكروا الماضي، فهو يعود بهم إلى ذكريات «من الزمن الجميل»، التي إن عادوا إلى تلك الذكريات، ينسون حياة الحضر ورفاهيتها، ويرتبط الصيف في أذهان سكان المنطقة بأمور عدة ربما لها تاريخ طويل، وقد تطرأ تغيرات جديدة كل عام إلا أنهم سرعان ما «يتحايلون» عليها ليظل الصيف حامل الذكريات والقصص النبيلة تحت ضوء القمر يوم كانت الإنارة على الفانوس، ولمبة الكاز.
ففي السابق كانت نسمات الهواء تحت الأشجار، وسيلتهم للإحساس بالبرودة، ومياههم المثلجة ماء يحفظ في جرار فخارية، ملفوفة بأكياس من الخيش والقش، يتهافتون إلى السدود، والأنهر القريبة للصيد، ويتسامرون في ليالي الصيف الطويلة تحت أشعة ضوء القمر يرافقها ضوء الفتيلة، ومع بدء الأزمة السورية قُطعت الكهرباء، وعادت الكثير من سبل الحياة القديمة إلى ساحة الواقع، ولكن أهل الجزيرة مرة أخرى تكيفوا مع الوضع، وتعايشوا فيما بينهم، في صورة نادرة من التكاتف.
فلا تكف الجدات عن رواية قصص الماضي، فإحداهن تخبز لجارتها على الصاج أو التنور، وأخرى تعد أسطل الألبان المختلفة استعدادا للفطور الريفي تحت أشجار العنب، وهناك من بعيد تأتي أخرى حاملة إبريق الشاي والأكواب؛ تدعو النساء جميعا لتناول الشاي؛ إذ هي لا تتلذذ به وحدها، وكثيرا ما تحدثت الجدات عن منزلة الجيران قديما، فلديهن فكرة “الجار قبل الدار”، هي الميزان الأخلاقي الذي يمايز البشر. لكن؛ ما يحن الناس كثيرا إلى عادة تجمع أهالي القرى المجاورة كلها، وكانت تلك العادة هي طبخ السليق، فمع قدوم الحصاد يسلق القمح في قدور كبيرة تعد له النساء ضمن أهازيج مغردة وأناشيد خاصة ينشدنها على صوت الماء المغلي وتحريك القمح في القدر، ويوزع إن نضج على الأطفال.
لم يكن لكل منزل مشواره الخاص، بل كانت المشاوير جماعية، كبار السن في مقدمة السيارة قديمة الطراز، والبقيّة في سطحها المكشوف، مهما كان حجم السيارة فهي تتسع الجميع، والمشوار واحد، إلى عرس في قرية أخرى أو في المدينة، أو إلى الأسواق، أو إلى عزاء.
لا تزال ألعاب الأمس حاضرة في الوجدان، وقائمة الألعاب الشعبية كبيرة، وقد سطرت فيها الكتب والدراسات والمقالات، والجميع يعلم أن الأطفال في الماضي استهوتهم الألعاب الجماعية، كما أن بعض الألعاب كانت موسمية من دون جدل، كـ «لعبة الطّيّارات» «الطائرات الورقية» كان موسمها هبوب رياح الشمال، ولعبة السبع حجرات، ولعبة الغميضة وطاق طاقية، وغيرها من الألعاب الجماعية، فتجد الأزقة والشوارع فترة المساء تعج بالأطفال، الذين يلعبون تلك الألعاب الجماعية، التي رسمت معالم طفولتهم وجمالها.
كان صوت العصافير أجمل موسيقا يسمعها المرء، والركض حفاة أفضل لعبة يلعبها الأطفال، كانت الأيام جميلة تترك أثرها الجميل في أرواحنا وتصقلنا من الداخل، ومهما أعطتنا التكنولوجيا رفاهية ومتعة، يبقى للطبيعة والبساطة سحرٌ خاص، وتبقى تلك الذكريات تحفر نفسها في قلوبنا رغماً عنا.