سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

قراءة جمالية لنص” هذيان” للشاعر د.عاطف درابسة

ريما آل كلزلي_

في الشعر، يمكن أن يُستخدم الهذيان لخلق تأثير معين، أو لنقل حالة من الارتباك أو الفوضى العاطفية، التي تتيح للشاعر أن يكتب بأسلوب يبدو غير مترابط أو مليء بالصور المتتالية التي تعبر عن حالة نفسية معينة. إذاً، أيكون ممكنا أن يخرّ النص الشعري الذي يعنون بهذيان من السماء كنيزك، وهل يقف الشاعر متفرجا أثناء ذلك، كما يقول بودليير: إذاً “ما الشّاعر؟ إذا لم يكن ترجمانا، فهل هو مفكك ألغاز!!”.
عبر دلالة العنوان “هذيان” التي توحي بفقدان السيطرة على العقل والوعي، فيصبح من الممكن أن يُستخدم حالة “هذيان” لوصف حالة من التدفق الحر للأفكار والمشاعر، التي قد تكون غير منطقية، ولكنها تعبر عن حالة نفسية أو عاطفية معينة. غالبًا ما يُستعمل هذا الأسلوب الأدبي لإظهار الاضطراب الداخلي للكلمات أو لإبراز حالة معينة من الوعي المتغير. فتتخذ كلمة هذيان للتعبير عن اللاوعي الأدبي في الغوص داخل أعماق النفس البشرية، مُظهرًا الشاعر فيها ما قد يكون مخفيًا أو غير مُعبر عنه بوضوح في الحالات العادية، ويمكن للهذيان أن يكون وسيلة فعالة لنقل مشاعر معقدة أو متناقضة، مثل القلق، الارتباك، أو حتى الجنون، وقد يسهم في ابتكار أساليب سردية جديدة أو وسيلة لاستكشاف إمكانيات جديدة في الكتابة، مما يُضفي طابعًا فريدًا على النصوص.
أما دلالات هذا النص الغني بالرموز فهي تعكس معاناة الإنسان في ظل أوضاع مثل الجمود والكآبة وقد اتخذ الشاعر حالة الانكسار واليأس مشاعرَ قوية تستحضر عالماً خالياً من الحياة والحركة، فيقول: “كلُّ شيءٍ حولي ساكنٌ: الرِّيحُ، الشَّمسُ، النِّساءُ، الأطفال”، واستخدام كلمة “ساكنٌ” مع عناصر طبيعية معروف عنها الحركة، وبشرية مماثلة، حيث يليق بالنساء تشبيه الشمس التي تحضن الكون بدفئها وتنبر الكون، كذلك الريح دائمة الحركة بالأطفال فأخذ يسكن المتحرك ليخلق حالة من الجمود والركود، ويصدم المتلقي، الأمر الذي يعكس الجمع بين الحالة الداخلية للشاعر وللكلمات بدقة وجمال.
ـ بينما استخدم الإيقاع والتكرار في العبارات مثل “كل شيءٍ ساكنٌ” ، “وكل شيءٍ صامتٌ” ليضفي على النص إيقاعاً موسيقياً يسهم في ترسيخ الشعور بالثبات والركود. هذا التكرار الجميل الذي يخلق نوعاً من الموسيقا الداخلية فتتعزز من جمالية النص.
 – النص مليء بالصور البصرية القوية، التي تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الحالة مع الشاعر، بدءا من وصف الأزهار الذابلة، الذي يعبر بصدق عن مشاعر الإحباط واليأس “الأزهارُ ذابلةٌ كوجهِ حبيبتي” و”المكانُ ميِّتٌ كروحي”، قوية ومؤثرة، والمكان، وتلك الصور تضفي على النص جواً من الواقعية المؤلمة وتحمل في طياتها شحنة عاطفية قوية تصل إلى قلب القارئ.
كذلك تميّز النص باللغة الشعرية الراقية إذ أن استخدامها بهذه الطريقة يضيف عمقاً وجمالاً إلى القراءة، منها:
“ثمَّةَ لغةٌ مُخيفةٌ تزورني في اليقظةِ والمنامِ”: اللغة هنا ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي كائن مخيف يزور الشاعر؛ ما يعكس حالة الاضطراب والخوف الداخلي.
“تُنبئُني عن أطفالٍ سرقوا من عيونِهم ابتسامةَ قوسِ قزحٍ”، وتأكيد السرقات المتعددة (الابتسامة، العيد، الرغيف) تعكس الحرمان والظلم، الذي يعاني منه الأطفال، مما يساهم في بناء صورة قاتمة عن الواقع.
“أتأمَّلُ تلكَ اللُّغةَ فأراها مثلَ عنكبوتٍ”: تشبيه اللغة بالعنكبوت يعكس أبعادها الكثيرة وتشابكها، وأيضًا خطرها المحتمل.
“تنسُجُ من حروفِها مدناً واهيةً لا يُغرِّدُ فيها عصفورٌ” فالمدن الواهية تشير إلى الفراغ واللاجدوى، وعدم وجود العصفور والغيم والمطر يرمز إلى غياب الحياة والنمو.
“أسمعُ صمتَها المبلولَ بالدُّموعِ”: الصمت المبلول بالدموع يؤكد الحزن العميق والآلام المكبوتة.
” فأرى الأطفالَ بلا راعٍ يسوقُها القصَّابُ إلى حتفِها” الأطفال هنا أشبه بالماشية، مما يثير تساؤل الشاعر عن الفرق بين البشر والحيوانات، معبرًا عن قسوة الواقع.
“حاولتُ كثيراً أن أهربَ إلى قصائدي” القصائد هنا ملاذ يحاول الشاعر من خلالها البحث عن معنى للحياة والحرية والإيمان.
“كلُّ شيءٍ ساكنٌ… إلَّا صوتُ الموتِ” يعود للسكون، حيث السكون والصمت يعيدان التأكيد على حالة الجمود، بينما صوت الموت هو الصوت الوحيد، مما يعكس هيمنة الموت على الحياة.
“سأعتذرُ يا حبيبةُ عن هذا الهذيانِ” الاعتذار هنا يعبر عن الإحساس بالذنب تجاه الحبيبة بسبب هذا الهذيان القاتم.
تميّز النص بالتناول الجريء للمواضيع الحساسة مثل فقدان الأمل، والظلم الاجتماعي، وفقدان الحرية بجرأة وصراحة. هذا التناول يعكس شجاعة الكاتب ورغبته في مواجهة هذه القضايا بقوة الكلمة.
وفي “الهامش”: ثمَّةَ كلمةٌ واحدةٌ ناقصةٌ، غير موجودةٍ في معاجمِ اللُّغةِ، ربَّما أُسقِطتْ منها؛ الحُريَّة.”
لم يكن اختتام النص بالإشارة إلى الحرية الناقصة يوضح أن غياب الحرية هو لب المشكلة، مما يعمق الإحساس بالظلم والقهر.
في النهاية النص “هذيان” هو قطعة أدبية رائعة تتميز بالرمزية العميقة، والإيقاع الموسيقي، والوصف البصري القوي، والعاطفة الصادقة، واللغة الشعرية الراقية. على الرغم من بعض الغموض والإطالة والنبرة الواحدة، يظل النص تعبيراً جميلاً عن حالة نفسية معقدة ومعاناة إنسانية عميقة يلفّها الانكسار واليأس العميق، حيث تتداخل الصور الشعرية لتخلق جوًا من الجمود والصمت والموت.
التناول الجريء للمواضيع الحساسة يعكس شجاعة الكاتب وقوة كلماته، مما يجعل النص يستحق القراءة والتأمل.
النص:
هذيان..
قلتُ لها:
كلُّ شيءٍ حولي ساكنٌ:
الرِّيحُ
الشَّمسُ
النِّساءُ
الأطفالُ
كلُّ شيءٍ صامتٌ:
الأزهارُ ذابلةٌ كوجهِ حبيبتي
والمكانُ ميِّتٌ كروحي
لا إشراقةَ تَنبتُ من أحشاءِ
الصَّباحِ
ولا نورَ يأتيني من القمر
ثمَّةَ لغةٌ مُخيفةٌ
تزورني في اليقظةِ
والمنامِ
تُنبئُني عن أطفالٍ
سرقوا من عيونِهم
ابتسامةَ قوسِ قزحٍ
وسرقوا من جفونِهم عبقَ العيدِ
ومن أفواهِهم سرقوا الرَّغيف
أتأمَّلُ تلكَ اللُّغةَ
فأراها مثلَ عنكبوتٍ
تنسُجُ من حروفِها مدناً واهيةً
لا يُغرِّدُ فيها عصفورٌ
ولا يعبُرُ سماءَها غيمٌ
أو يتنزَّلُ على أرضِها مطر
أُصغي إلى تلك الحروفِ
أسمعُ صمتَها المبلولَ بالدُّموعِ
فتأخذني إلى ماضٍ بعيدٍ
كأنَّه حاضرٌ أعيشهُ الآن
فأرى الأطفالَ بلا راعٍ
يسوقُها القصَّابُ إلى حتفِها
بعصا وسكِّينٍ
فثارَ في خاطري سؤالٌ:
هل ثمَّةَ فرقٌ يا حبيبةُ بين البشر
وبين الأغنام؟
حاولتُ كثيراً
أن أهربَ إلى قصائدي
لعلَّي أكتشِفُ أنَّ الحياةَ موجودةٌ
منذُ زمنٍ لم أشعُرْ بالحياةِ
لم أشعُرْ بالإيمانِ
لم أشعُرْ بالحريَّةِ
لم أشعُرْ بالسَّماءِ
لم أشعُرْ بالأرضِ
لم أشعُرْ بطقوسِ الولادةِ
فكلُّ الأطفالِ الذين يُولدونَ هنا
موتى
كلُّ شيءٍ ساكنٌ
كلُّ شيءٍ صامتٌ
لا أسمعُ إلَّا صرخاتِ الظَّمأِ
والجوع
كلُّ شيءٍ ساكنٌ
إلَّا صوتُ الموتِ
سأعتذرُ يا حبيبةُ
عن هذا الهذيانِ
وأعتذرُ عن لغتي
التي أُصيبتْ بالخَرسِ
فلن أُسيءَ استعمالَها
فبالرَّغمِ من ألفاظِها اللامحدودةِ
ومعانيها الواسعةِ
غير أنَّها لا تُسعفني
أن أُغنِّي للوطن
هامش: ثمَّةَ كلمةٌ واحدةٌ ناقصةٌ، غير موجودةٍ في معاجمِ اللُّغةِ، ربَّما أُسقِطتْ منها؛ الحُريَّة.