سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

حال النساء في البلاد بعد انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول..!

منذ تسعينات القرن الماضي، قاد المجلس الأوروبي، الذي يضم سبعاً وأربعين دولةً، حملاتٍ شملت تقاريرَ محليةً للدول الأعضاء، ودراساتٍ استقصائية تتعلق جميعها برصد العنف الممارس ضد المرأة.
بناءً على نتائج تلك الحملات، واقتداءً بتوصيات وزراء العدل للدول الأعضاء، ارتأت الجمعيةُ البرلمانية للمجلس، وضع معاييرَ قانونيةٍ موائمةٍ وواضحة، لضمان استفادة ضحايا العنف من المستوى نفسه، من الحماية في أي مكانٍ في أوروبا.
في كانون الأول 2008، كلّفت لجنةُ وزراء المجلس الأوروبي فريقَ خبراء، لوضع مشروع اتفاقيةٍ لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي، حيث أخذت الصياغة النهائية لنص المشروع أكثرَ من سنتين. بُنيت الاتفاقيةُ المؤلفة من إحدى وثمانين مادةً مقسمة، إلى اثني عشر فصلاً، على أربعة أُسُسٍ هي: المنع والحماية ـ ودعم الضحايا ـ ومحاكمة المجرمين ـ والسياسات المتكاملة.
في السابع من نيسان عام 2011 اعتمدت لجنة الوزراء بالمجلس الأوروبي هذه الاتفاقية، وفتحت بابَ التوقيع عليها في الحادي عشر من أيار من العام نفسه، احتفالًا بجلستها المائة والواحدة والعشرين في إسطنبول، عندما تولت تركيا الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي.
بتاريخ الأول من آب 2015، دخلت الاتفاقيةُ حيّز التنفيذ، عقب الحصول على عشرة تصديقات، ثمانيةٌ منها لا بد وأن تكون من دولٍ أعضاءَ في المجلس الأوروبي، فأصبحت اتفاقيةُ إسطنبول أول أداةٍ ملزمةٍ قانونًا، أي تطبق إطاراً ونهجاً قانونياً شاملاً، لمكافحة العنف ضد المرأة، وتركز على منع العنف المنزلي، وحماية الضحايا، ومحاكمة المجرمين المتهمين.
انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول 
أثارَ موقف تركيا، كأول دولةٍ وقّعت وصادقت على اتفاقية إسطنبول، ريبةَ الخبراء في الشأن السياسي التركي، خاصةً وأن نظام العدالة والتنمية القائم بالسلطة، معروفٌ بسياساته وممارساته الصارمة حيال المرأة. فتركيا بعد الكمالية، ضربت عرضَ الحائط القوانين العلمانية، ومبدأ تعزيز المساواة بين المرأة والرجل، إذ حاولت الأنظمةُ منذ تلك الفترة، تقويضَ حرية المرأة وإعادتها إلى العُزلة الحقوقية.
وفيما يتعلق بالخبراء، بدا واضحاً أن المبادرة التركية للتوقيع على الاتفاقية، جاءت ضمن مساعي النظام التركي، للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، خاصةً وأن أحد أكثر الملفات، التي تقف عائقاً أمام هذه الخطوة، هو ملف حقوق الإنسان.
فالمفاوضات المتعلقة بحصول تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، تعثّرت كثيراً منذ بدئها عامَ 2005، واتسمت عمليتها بالبطء الشديد، إذ اتهم الاتحاد الأوروبي تركيا، بانتهاك حقوق الإنسان، وانتقد جوانبَ قصورِ سيادة القانون فيها، وانتهاك سياساتها لمعايير كوبنهاغن، المؤهِّلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ما أثار التناقض، أنه في 2020 عندما أزّم فيروس كورونا، بما رافقه من إجراءاتٍ وقائيةٍ من معضلاتٍ مختلفة، تصدّرتها جرائمُ العنف المنزلي، بدأ النظام التركي بدراسة انسحابه من الاتفاقية المَعنية بالحد من هذه الجرائم قانونياً.
وفي مطلع تموز 2021 تم إعلان انسحاب تركيا رسمياً من اتفاقية إسطنبول، لمنع العنف ضد المرأة، وسط تنديدٍ واستنكارٍ داخليٍّ وخارجيٍّ كبير.
أصبحت تركيا بذلك أول جهةٍ مُصادقةٍ تنسحب من الاتفاقية، التي حددت بالتسمية مجموعةً من الجرائم التي تُعدُّ عنفاً ضد المرأة، من بينها العنف النفسي والترصد، والعنف الجسدي بما فيه الاعتداء الجنسي، والزواج القسري، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والإجهاض الإجباري، والتعقيم القسري، ووجهت نحو إخضاع التحرش الجنسي لعقوباتٍ جنائيةٍ صارمة، وكذلك جرائم القتل، التي تُرتكب باسم الشرف، والاستغلال الجنسي للأطفال تجارياً.
بعد حوالي ثماني سنواتٍ من العضوية، والإشادة بالاتفاقية، على أنها دليلٌ لريادة تركيا بمجال المساواة بين الجنسين، حسب ما جاء على لسان رئيس النظام التركي في وقتٍ سابق، ناقض أردوغان نفسَه عندما تذرّع في الانسحاب، بأن الاتفاقية تقوّض القيم العائلية التقليدية.
جاء ذلك فيما أكد محللون سياسيون، أن عمليةَ الانسحاب خطوةٌ مدرجةٌ ضمن الأجندة الانتخابية لرئيس النظام التركي، خلال الانتخابات الرئاسية في 2023 من أجل تفكيك الكُتل الحزبية المُعارضة له، خاصةً بعد أن تراجعت شعبية حزبه، وأدت سياساته الاقتصادية لأزمة تراجعِ الليرة التركية.
ردود الفعل على الانسحاب من الاتفاقية 
على الصعيد الداخلي، ومذ بدأ التنفيذ الرسمي لقرار رئيس النظام التركي رجب أردوغان، الانسحابَ من اتفاقية إسطنبول، خرجت مظاهراتٌ نسائية، انضمت إليها نساءٌ يعملن في الدوائر الموالية للنظام، بالتزامن مع حملات استنكارٍ على وسائل التواصل، انتقدت المبررات المتعلقة بالعادات والتقاليد، معتبرتها سلوكياتٍ تصنّف النساء مواطناتٍ من الدرجة الثانية.
من جانبهم نشطاءُ ومدافعون عن حقوق المرأة، ومحامون وسياسيون معارضون، ندّدوا بالمرسوم الذي صدر عن أردوغان، مُصرّين على أنه لا يمكن للرئيس إخراج تركيا، بشكلٍ قانوني، من اتفاقيةٍ دولية، كان قد صادقَ عليها البرلمان.
وبعد رفض المحكمة الإدارية، طعناً قضائياً لوقف الانسحاب، أعرب اتحاد الجمعيات النسائية، عن عدم استيائه من الاستنكار، موضحاً أن ضحايا العنف أكثرُ تردّداً في طلب المساعدة، وأقلُّ احتمالاً لتلقيها، بعد أن أدى فيروس كورونا إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية، مما تسبب بزيادةٍ كبيرةٍ في العنف.
دولياً، حذرت منظمة العفو الدولية، من أن العنف ضد المرأة يسير بشكل تصاعدي في تركيا، بالإضافة إلى الانتقادات، التي وجّهها الاتحاد الأوروبي وألمانيا، وفرنسا والمفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهو مؤشرٌ واضحٌ لبقاء تركيا أكثرَ ابتعادًا عن التكتل الأوروبي، الذي تقدمت بطلبِ الانضمام إليه، في عام 1987.
تداعيات انسحاب تركيا رسمياً من اتفاقية إسطنبول
جاءت خطوةُ انسحاب النظام التركي من اتفاقية إسطنبول، في ظل ارتفاع نِسب أعمال العنف ضد المرأة في البلاد، حيث تم إحصاءُ مقتلِ ثلاثمائة امرأةٍ في عام 2020 على أيدي أزواجهن وأقاربهن، وفقاً لإحصاءاتِ المجموعة الحقوقية “سنوقف قتل النساء”.
منظمة الصحة العالمية، أوضحت بدورها أن ثمانيةً وثلاثين في المائة، من النساء في تركيا، تعرضن مرةً واحدةً على الأقل، للعنف الأسري، مُعتبرةً أن جرائم قتل النساء في تركيا من أخطر الجرائم، خاصةً وأنه في بعض المناطق ثمة لا مبالاةٌ مجتمعيةٌ للعنف الممارس ضد المرأة.
جمعياتٌ حقوقيةٌ أعربت عن مخاوفها، حيال تداعيات قرار الانسحاب، خاصةً وأنه قد يمنح الرجال حقَّ ممارسة العنف ضد المرأة، بالإضافة إلى السماح بتهرب المُرتكبين للعنف، وتخفيف العقوبات على الجُناة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من جرائم العنف والقتل ضد النساء في تركيا، في ظل عدم الالتزام بتطبيق القوانين التي تنصُّ على حماية المرأة وحقوقها.
وتعتبر اتفاقيةُ إسطنبول، المعاهدة الإقليمية الثالثة على الصعيد العالمي، التي تتناول العنفَ ضد المرأة، والأكثر شمولاً بعد “الاتفاقية الأمريكية، بشأن منع واستئصال العنف ضد النساء والعقاب عليه” (اتفاقية بيليم دو بارا) المُعتمدة في عام 1994 و”بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا، الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب” (بروتوكول مابوتو) المعمول به منذ عام 2003.
قناة اليوم