سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ثورة الشيخ سعيد بيران.. ثورة شعب وانتفاضة وطن

إعداد/ عبد الرحمن محمد_

ما زالت كلمات الشيخ سعيد بيران التي قالها قبيل تنفيذ الدولة التركية حكم الإعدام بحقه به، تتردد على مسامع الكثير من الكرد في أرجاء المعمورة، فيرفعون رؤوسهم في كبرياء وفخر، وتمر أمام أنظار المجرمين والقتلة، وهي مدونة في دفاتر التاريخ، فيغضون عنها الطرف، ويحاولون الإلقاء بها بعيدا عن أنظارهم، التي أدمنت سيرة الموت والقتل، ما زال الشيخ سعيد يشير ببنانه للجندي التركي ويصرخ في وجهه: “لن تستطيعوا إعدام شعب بأكمله”.
أربعة أشهر كانت فترة كافية ليهز فيها الشيخ أركان دولة محتلة، وأن يزرع الخوف في قلوب قواتها الغاشمة، كما أرعبت موفد قائد الفيلق السادس في “آمد” عندما سأله إن كان يود إرسال رسالة لأهله، فطلب منه ورقة وقلما، وعندما أحضروا له ما أراد قال للجنرال: “هل تودّ معرفة عزيمتي وأنا قريب من الموت خطوة واحدة”. ثم شرع يكتب وصيته: “هل يوجد عاقل في الدنيا يمكن أن يوصي أعداءه بوصيته ويكلفهم بتنفيذها؟ ولكني أقول وأصرح بأن لدي /90/ ألف ليرة ذهبية في بنك إسطنبول، وكيس آخر من الذهب انتشلها جنودكم منا عند جسر “فارتو” ليلة اختطافنا، أطلب إعطاءها لعائلتي، ومع ذلك لا أصدقكم، ها أنا اليوم أفدي بكل روحي ومالي لأجل شعبي، فلا أعتقد أن هناك أكثر من هذه التضحية، وأنا البالغ من العمر /75/ عاماً”.
وعندما ودع رفاقه بُعيد خروجه من زنزانته قال لهم، وبكل حزم وقوة، كلاماً أصبح دستور مقاومة ومنهجاً لكل مناضل: “أيها الأخوة يجب أن تعلموا بأنكم مباركون اليوم وعظماء أمام شعبكم وأمام الله، وبموتنا لن يموت شعبنا، بل سيصل إلى الحياة الحرة والمستقلة ما دام يوجد بينه رجال شجعان من أمثالكم، كما أن مصدر قوتنا وأملنا هو أنتم من بعدنا، وأنتم ورثة هذه المرحلة، ونحن لسنا نادمين بأن نعطي أرواحنا فداءً لكم وللوطن، ثقوا أنتم محظوظون، وكل طلبنا وأملنا أن تكونوا راضين عنا”.
هكذا كان المنهج والطريق الذي اختاره الشيخ الثائر والمقاوم العتيد، وقد كان متفتح الذهن فطنا لما تتطلبه المرحلة، ومدركا لما قد تثيره بعض الأفواه الداعية للفتنة والقلائل، فكانت ثورته مبنيه على ركيزة اجتماعية واسعة ومتنوعة، ويشير إلى ذلك الكاتب عبد الوهاب بيراني، وهو سليل عائلة الشيخ سعيد بيران في مقال نشرته صحيفتنا “روناهي” من قبل: “العديد من الباحثين والدارسين، الذين تناولوا ثورة الشيخ سعيد بيران تاريخياً، قالوا بأنها ثورة دينية، ولكن يمكننا القول: إنها لم تنطلق من الجوامع أو المساجد، وأنه تم اتخاذ قرار البدء في مؤتمر لحركة آزادي (الحرية)، والتي انطلقت في الخامس من شباط لأسباب قاهرة رغم أن ساعة الصفر تم تحديدها بالحادي والعشرين من آذار، والذي يصادف عيد النوروز، العيد القومي الكردي الأكبر ورأس السنة الكردية، التي تعد رمز قوتهم ونضالهم التحرري عبر التاريخ، ذلك اليوم الذي تم اختياره لما يحمله نوروز من رمزية قومية كردية إنسانية تحررية، وقد تم إقرار الثورة بناء على قرار جمعية آزادي، وبعد مشاورات واتصالات مع زعماء ورؤساء القبائل الكردية وعشائرهم، وعبر التواصل مع عرب وأرمن المنطقة، ولم يكن قراراً صادراً عن تكية دينية، ولا يمكن أن يغفل التاريخ عن تلك الروح الثورية للمقاتلين والمحاربين والثوار، وهم يندفعون نحو جبهات القتال ويقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الحرية وهم يطلقون الجملة الثورية الخالدة “عاشت كردستان””.
كانت ثورة الشيخ سعيد بيران كردستانية شاملة ضد الشوفينية التركية، وسياسة حكومة أتاتورك التتريكية، ولم يكن هدفها إعادة الخلافة أو نظام السلطنة العثمانية، وإلا كان السلطان المخلوع وأتباعه من داعميه وسيوفهم وبنادقهم مع الشيخ لا عليه. وكان يستطيع الاتفاق مع سعيد النورسي الذي كان من اتباع إعادة الخلافة.
وكما تشير العديد من المصادر إلى بعض تفاصيل محاكمة الشيخ الثائر فقد كان الشيخ سعيد ومعه 63 من رفاقه القياديين، الذين أسروا على جسر “جار بهار “çarbihar على نهر الفرات في “فارتو” من منطقة موش محتجزين، ولم يكن مسموحاً لأحد بزيارتهم، أُخِذوا أكثر من عشرين مرة إلى المحكمة ولم يكن لهم محامون، لكي يدافعوا عنهم، بل كانت المحكمة انتقامية ولأجل الدعاية للدولة الكمالية ولأسباب أخرى، ومن أهمها تشويه سمعة قيادة الانتفاضة من خلال تبديل إفاداتهم بشكل مقلوب.
كانت تنشر أقوال غير أقوال الشيخ سعيد في جريدة “الزمان” و”آكس مجموعسي” التركيتين، وكثيراً ما كان الشيخ سعيد ينفي ما كان ينشر، ولكن أحياناً كان فيهما بعض الحقائق عندما كان يتعلق الأمر بإدانة زعماء الانتفاضة حتى ينالوا أقسى الأحكام لتشفي غليلهم، وترضي حقدهم تجاههم.
استطاع الشيخ سعيد بعمق نظرته وفلسفته وقوة شخصيته، إضافة لنشأته الدينية، الحصول على الدعم والتأييد من الكثير ممن حوله من الشخصيات والعشائر والكيانات الدينية والقومية، وحصل على الدعم والمساندة من العشائر الكردية، التي قارب بين البعض منها، وأصلح بين المتخاصمة منها، وبعض العشائر العربية والأرمنية، وكان على يقين ان الأتراك لن يفوا بوعودهم كما ساق عهده بهم، ويشير الكاتب عبد الوهاب بيراني لهذه الجزئية: “وكان يدرك أن الأتراك محتلون، وأنهم أبعد ما يكونون عن الوفاء بوعودهم للكرد، وتبين ذلك حينما حنثوا بوعودهم إثر اتفاقية لوزان وإعدام قادة “جمعية آزادي” الذين كانوا يدعون إلى إنهاء الحكم التركي، وضرورة تحرر الولايات الكردية والشعب الكردي من ربقة السلطنة، ومن إطار الجمهورية التركية لاحقاً”
ويضيف عن شخصيته القوية والكاريزما، التي كان يتحلى بها: “وجاء اختيار جمعية آزادي لشخصية الشيخ سعيد بيراني ليس فقط لأنه رجل دين يتبعه أغلب سكان المناطق الكردية من كرد، وأرمن، وعرب، وشركس مسلمين، ومسيحين فحسب، بل لأنه رجل سياسة وطني يمتلك علاقات مع الجمعيات الكردية والتنظيمات الأرمنية، وله مكانته البارزة كشخصية وطنية عند الكرد والعرب، والترك، والشركس والسريان والأرمن وغيرهم؛ فهو شخصية عملت على الدوام على حقن الدماء وإرساء الصلح والسلام بين القبائل والعشائر المتنازعة، ويشهد له حمايته لأملاك الأرمن وحماية أرواحهم من المذابح، فقد أنقذ ما يربو على عشرة آلاف عائلة أرمنية، ومنع الزواج من نسائهم، ولم يقبل أن يتم أسلمتهم وإنما منع على مريديه ذلك، حيث كان الكرد والأرمن وفي قرى عديدة يسكنون متجاورين ويشكلون نسيجاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً واحداً ولمئات السنين، وكانت له صلات وثيقة مع العائلات الوطنية كعائلة بدرخان بك، وعائلة الشيخ عبيد الله النهري، ولهذا سطع نجمه في سماء كردستان، لدرجة أن جواهر لال نهرو ذكره، وسرد بعضاً من تفاصيل ثورته، ومدى توحش الأتراك وأساليبهم في القضاء عليه وعلى ثورة الكرد في سبيل الاستقلال”
يختتم الكاتب عبد الوهاب بيراني مقاله عن حقيقة شخصية وثورة الشيخ سعيد: “الحق أن ثورة الشيخ سعيد كانت ثورة تحررية لتطبيق العدل ورفع الظلم عن كاهل شعبه ولاستقلاله. وهنا يمكننا إيراد ما قاله رئيس محكمة ما تم تسميتها آنذاك بمحاكم الاستقلال في إشارة إلى إن الاستقلال جريمة، والذي حكم بالإعدام على ثلاثة وخمسين زعيماً من زعماء الثورة: “لقد اتخذ بعضكم إساءة استعمال السلطة الحكومية، والدفاع عن الخلافة، ذريعة للثورة، ولكنكم كنتم متفقين جميعاً على إقامة كردستان المستقلة”.
يبقى الشيخ سعيد بيراني رمزا من رموز الوطنية ومنبرا قوميا خالدا في تاريخ الكرد المعاصر.
وفي 29/6/1925 أعدمت المحكمة العسكرية الكمالية، التي كانت تدعى آنذاك بمحكمة الاستقلال عدداً من قادة الثورة في آمد عند بوابة الجبل والبالغ عددهم /49/ قائداً ومناضلاً كبيراً، ومن بينهم الشيخ سعيد بن الشيخ محمود بن الشيخ علي بالو بن الشيخ حسين بن الشيخ هاشم المعروف بالشيخ سعيد بيران.