سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مخاطر النزعات الدولتية القوموية والرسم الأوجلاني طريق الخلاص

محمد عيسى_

تظهر الدولتية القوموية المركزية في أوضح صورها ومآزقها من خلال حربين دائرتين اليوم، الأولى “روسيّة” في أوكرانيا وقد انتصف عامها الثالث، والثانية “إسرائيلية” فلسطينية في غزة وتقترب من إكمال عامها الأول.
حربان تؤكد التطورات التي تحكم كل منهما؛ أنهما تحملان سمات الدولتية التي تنزع إلى الحروب كطريق أوحد لتحقيق مصالحها ولترجمة أحلامها في التوسع والسيطرة. وبصرف النظر عن الظروف المحيطة بشروط وأسباب اندلاع كل واحدة من هاتين المواجهتين الخطرتين يمكن تسجيل ملاحظة هامة، مفادها، أنه في مجرياتهما فقط يتكرر التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وحيث دأبت القيادة الروسية على التلويح باحتمال استخدامه مراراً وتكراراً غير آبهة بالمحاذير الأخلاقية والإنسانية المترتبة عن ذلك، وفي خطوة ذات دلالة كيدية ومنهج مكيافلي بالغ الخطورة؛ يقول الرئيس بوتين: (سندعم ونسلّح أي أطراف دولية تتصادم مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية…)، يقول أطرافاً ولم يقل دولاً، ما يعني دعم منظمات يصنفها العالم بالإرهابية وقد تكون داعش  أو تنظيم القاعدة إحداها، الأمر الذي جاءت ترجمته المباشرة عبر رفع المبعوث الروسي إلى أفغانستان لتنظيم طالبان عن قائمة المنظمات التي تتعارض مع المصالح.
هذه الدولتية المركزية النمطية المرادفة لمصطلح الحرب والعدوان هي نفسها المنتعشة في إسرائيل، وعينها (نفسها) في تركيا وإيران ودول النمط القوموي الأخرى.
ولعله في إسرائيل أو عند الأطراف والمنظمات المنخرطة في الحرب الإسرائيلية ـ حيث يتردد الحديث عن تحويل منطقة الصراع إلى زمن العصور الحجرية ـ هو الأوضح والأشد تمثيلاً للحروب اللاأخلاقية من النمط العقائدي القوموي المستهتر وغير العابئ بحياة السكان المدنيين.
فإسرائيل، الدولة العبرية، التي كانت محور الأحداث في منطقة الشرق الأوسط طيلة ما يقرب من قرن من الزمن لم تكن في نظر الأدبيات الأوجلانية غير النموذج الأكثر تعبيراً عن طبيعة الحداثة الرأسمالية وعن مشاريعها في السيطرة والتوسع، لا بل يذهب القائد عبد الله أوجلان إلى إدانتها بالتورط في تنفيذ جريمة اختطافه في العام 1998، وذلك بعد أن يئست من استمالته واستمالة حزبه ليكون ضمن مستلزمات مشروعها الدولتي في المنطقة، ويبيّن القائد عبد الله أوجلان أن عروضاً مغرية من الموساد الإسرائيلي كانت تُقدم، وقد رفضها القائد أوجلان لاعتبارات:
1ــ فكرية سياسية تتعلق برؤية الحزب للقضية الكردية كجزء من حركة تحرر الشعوب والتي لم تكن لتتقاطع مع أحادية الرؤية من قبل إسرائيل للمسألة الكردية.
2ــ مراعاة موقف القيادة العربية السوريّة المضيفة.
ذلك الرفض الذي كان من تَبِعاتِه أن قامت الدوائر الأمنية والسياسية في كل من إسرائيل وتركيا بتفعيل اتفاقات بينية سرية تتعلق في ذلك الوقت بمسمى مكافحة الإرهاب، وبالتالي ضلوع الموساد الجدي في تنفيذ فصول جريمة الاختطاف.
ولطالما كان هذا هو أحد وجوه المركزية المدنية الدولتية في إسرائيل والتي من تعابيرها الأساسية السيطرة والحرب ومد النفوذ ومراكمة رأس المال، شأن كل مكونات الحداثة الرأسمالية في العالم، فمن المنطقي أن تكون العبودية والاستلاب والتهميش هو التعبير الموازي الآخر أو هو التحدي الملازم لكل حداثوية دولتية، وبما أن الحدث الإسرائيلي هنا هو المحور وعليه تتركز نقطة الاهتمام؛ فمن الجدير ذكره أن التفكير الأوجلاني يمشي بعيداً في التعويل على مسألتين في التاريخ البشري. الأولى (الحرية)، كهدف شديد العظمة إلى حدٍ يتراءى له وكأن الكون كله يتجه نحو تحقيق هذا الهدف، ويسمي نفسه بمثابة ساعٍ دؤوب على دربها ثم يعبّر عن افتتانه بتعريف الفيلسوف “سبينوزا” لها على أنها (قوى المعنى والخلاص من الجهل)، فيكون المؤدى بعد ذلك الوصول الى أهمية ومغزى وعمق الحرية المجتمعية التي يتحدد مستواها في مجتمع ما بالمستوى الذي يركز فيه ذلك المجتمع على قدراته في الذكاء والعقل والثقافة
بما يشير الى أهمية الوعي، وهي بالضبط أي “الحرية المجتمعية” البوابة للدخول إلى الأخلاقية الاجتماعية.
والمسألة الثانية: (دور ووزن القبيلة العبرانية في التأثير على التاريخ البشري)، هذا الدور الذي استمر بمكانته وتفرده ــ بحسب القائد عبد الله أوجلان ــ أيضاً لسببين: (الأول)، السيادة المالية والهيمنة على حركة رأس المال حيث يسجل لليهود نجاحهم الفائق عبر الزمن بالسيطرة المالية على تراكم رأس المال.
والسبب (الثاني) ــ وهو الأهم ــ السيطرة الفكرية على أذهان المجتمعات والتي بدأت من تأثير أنبيائهم ثم فلاسفتهم وعلمائهم والعاملين بحقول الفنون والمعارف، الذين يخطفون انتباه التفكير المقارن عند القائد أوجلان الذي يتأمل عميقاً بأهمية “سبينوزا” في الفلسفة، وماركس في السوسيولوجيا، وفرويد في علم النفس، ثم أينشتاين في علوم الفيزياء.
كل ذلك مما يعني أن القبيلة العبرانية ومنذ العهد السومري وهي من تسوّس العالم ويصفها بأنها القبيلة الثرية الحرة.
هذه القبيلة أو الجماعة التي بموازاة حريتها وتفردها وثرائها تشكل إلى جوارها جيش العبودية والجهل والتهميش.
وفيما تُعدُّ رسالة ذات بُعد فلسفي وتاريخي من قبل المتابعة الأوجلانية لسيرورة الحدث الإسرائيلي، يذكّر القائد أوجلان، مهندسي المصالح الذين ينظرون لمستقبل إسرائيل، يذكرهم بضرورة الاستفادة من لفتة ماركس الملهمة للطبقة العاملة والتي دعا من خلالها الطبقة العاملة إلى تحرير المجتمع بأكمله إن هي شاءت أن تتحرر من سيطرة البرجوازية، وعلى نفس القاعدة، سيكون على اليهود أن يحرروا المجتمعات كلها إن شاؤوا أن ينعموا بحريتهم وإن أرادوا أن يتجنبوا ظهور هتلر جديد في طريقهم.