سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الشرق الأوسط… حبيس تحالفاتٍ هجينة ومتغيرة

حمزة حرب_

إن إدراك الديناميكية السياسية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، وخارطة اللاعبون وعلاقاتهم، والإمكانات التي يملكها كل منهم لتطوير الواقع السياسي في المستقبل القريب، يستوجب إدراك الوعي العام والمسببات الحقيقية، التي أوصلت الوضع على ما هو عليه، وهو فرض تحالفاتٍ هجينة قائمة على المنفعة بعناوين ظاهرها دبلوماسي وباطنها براغماتي، فهذه الديناميكية كانت محصلة حالة الغليان الشعبي الذي كان حصاد ما زرعته الأنظمة القمعية في المنطقة، ومحاولة تصويرها المطالب الشعبية على أنها فوضى مخطط لها لتفتح المجال أمام خلط الأوراق، التي سمحت بالتدخلات العسكرية والسياسية المتعددة الأطراف والمسميات والأهداف.
الشرق الأوسط والتحالفات الهجينة 
من المعلوم أن الشرق الأوسط يمثل ثِقَلاً خاصاً في النظام الدولي؛ لما له من أهمية استراتيجية ومكانة اقتصادية، والتي لا غِنى عنها لواشنطن، خصوصًا أنَّ غياب واشنطن يعنى حضورَ الصين وروسيا، وهي مسألة حسّاسة للولايات المتحدة في إطار التنافس الدولي الراهن. لذا؛ كان اللعب على المتناقضات ديدن التعامل الأمريكي على الساحة الشرق أوسطية وشكل أداة مهمة في مسالة اللعب على المتناقضات، وعلى رأس هذه المتناقضات هو العداء الأزلي بين طهران والرياض، وما ترتب عليه من فتح المجالات كلها أمام التوغل الغربي خصوصا في دول الخليج طيلة السنوات الماضية.
فخلال تلك السنوات كان للولايات المتحدة حضور بارز وفعال بناءً على تحالفات عسكرية متينة، إلا أنها بذلت في السنوات القليلة الماضية جهودًا كبيرة من أجل أن تُنشئ آلية للأمن الإقليمي، لكي تكون بديلةً عن مظلَّة الحماية الأمريكية، التي تراجع تأثيرها، بعد قرار واشنطن الانسحاب من المنطقة، وتركيز جهودها لمواجهة المخاطر في جنوب شرق آسيا.
لقد ناقشت واشنطن مع دول المنطقة خلال فترة دونالد ترامب هذه المسألة، وجرى النقاش حول نظام دفاعي أمني متكامل للتصدِّي لإيران “ناتو عربي” وتواصل النقاش خلال فترة جو بايدن، وكان ضمن أهداف واشنطن، أن تدمج إسرائيل في هذا الحلف، بعد أن يكتمل مسار التطبيع مع دول الخليج.
كما طورت واشنطن تحركاتها واجتماعاتها من منتدى النقب، والاتفاقية الدفاعية مع البحرين، ومشروع الهند-الشرق الأوسط – أوروبا ذي الطابع الاقتصادي، وكذلك التحالف الرباعي بين إسرائيل، والأردن، والإمارات، والهند، وغيرها من المبادرات، التي اختبرت من خلالها واشنطن إمكانية احتواء آثار انسحابها وتخلِّيها عن حُلفائها.
على الرغم من تعدُّد المبادرات، واجهت واشنطن صعوبات في إنشاء أيّ تحالُف أمني بديل ينهضُ بمهام الأمن الإقليمي، ويضمن مصالح واشنطن ونفوذها لكن عكست التطوُّرات سياسةَ واشنطن، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنَّه لا بديل لواشنطن عن إعادة تقييم مسألة انسحابها من المنطقة، وأنَّ قيادة تحالُف أمني هي ضرورة مُلِحَّة في حال أرادت واشنطن، أن تحتفظ بنفوذها الإقليمي، وتضمن تدفُّق مصالحها بصورة مُستدامة.
لكن السعودية لعبت بورقة ضغطٍ أخرى بوجه واشنطن وهو الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين، إذ إنَّ هذا الاتفاق يمثّل رغبة سعودية في تخفيض حدة التصعيد في المنطقة وتوزيع دائرة حلفائها، وقد حمَلَ في طيّاته تغييرات مهمَّة تؤثِّر سلبًا على مقاربة واشنطن الإقليمية، لا سيّما التعامل مع تهديدات إيران.
وعلى الرغم من هذا التقارب الذي لعبته السعودية مع إيران برعاية الصين إلا أنها واصلت إلى جانب دول الخليج العربي، وكذلك مصر والأردن، تشجيع واشنطن على المساعدة في إدارة الديناميكيات الأمنية في الشرق الأوسط واحتواء أنشطة إيران ومنع حرب إقليمية أوسع، ولا يزال القادة السعوديون يعتقدون أن معاهدة الدفاع الثنائية مع الولايات المتحدة يجب أن تكون جزءاً من أي صفقة تطبيع مستقبلية مع إسرائيل.
ففشل واشنطن في إدارة هذا الملف؛ يفتح الأُفُق للصين لِلَعِب دور دبلوماسي وسياسي يقلل من نفوذ الولايات المتحدة، ويخرج خِطَطها بشأن توسيع اتفاقيات إبراهام من يدها؛ لأنها ستواجهُ تحدِّيات جسيمة، بعدما كانت على وشك أخْذ دُفعة مهمَّة ستغيِّر المنطقة ككُلّ، وتجعل فكرة ” الناتو العربي” الذي خططت له واشنطن بعيدة المنال في الوقت الراهن؛ بفعل التحالفات الجديدة، التي قد نُثرت بذرتها في المنطقة على حساب التحالفات الكلاسيكية مع الغرب.
واشنطن حبيسة مصالحها
هذه المتغيرات على الساحة الشرق أوسطية خصوصاً مع تصاعد النفوذ الشرقي “الصيني الروسي” في المنطقة، وضعت واشنطن حبيسة مصالحها مع تزايد صراعها للحفاظ على الأحادية القطبية العالمية في وجه المشروع الرامي إلى تعدد الأقطاب الدولية الذي يحمل في طياته مشاريع متعددة لا تصب بكل تأكيد في مسار المصالح الأمريكية في المنطقة.
فتسعى واشنطن جاهدة اليوم لقطع الطريق على نفوذ الصين، وروسيا المتنامي في الشرق الأوسط من خلال نسج تحالفات هجينة، واتفاقياتٍ مركبة ليس أقلها اتفاقيات التطبيع العربي الإسرائيلي، الذي تنوي أن يكون بذرة لتحالف أمني ترغب واشنطن من خلاله قطع الطريق على القُوى المنافسة لها، للعب دور أكثر اتّساعًا في الشرق الأوسط، وملء الفراغ، الذي تركته الولايات المتحدة خلفها، كما يحول دون اتّجاه هاتين الدولتين “روسيا والصين” إلى تطوير شركاتهما الأمنية والعسكرية مع دول المنطقة، والتي تنامت بصورة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، في ظل تراجُع مظلَّة الحماية الأمريكية.
من جهة أخرى يرى خبراء، أن واشنطن أرادت إعادة صياغة التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، والتي أرادت من خلال سياستها صياغة العلاقات الإقليمية من جديد، إذ إنَّه يُعيد تشكيل التوازنات الاستراتيجية في المنطقة لصالح نفوذها الإقليمي والعالمي وفي الوقت نفسه، فإنَّ تشكيل تكتل إقليمي يضم إسرائيل إلى جانب دولٍ عربية في تحالفٍ هجين هو ضمن سلسلة من الإجراءات، التي تعمل عليها واشنطن.
بينما تسعى الدول العربية وضْع حدّ لتهديدات إيران وجهودها المُنسَّقة مع أذرُعها الإقليمية، والتي شددت واشنطن على أن هذا التحالف الهجين، الذي حاولت خلقه وفق اتفاقيات إبراهام سيقطع الطريق على نفوذ إيران الإقليمي المتنامي، ويسِدّ الفجوة، التي خلقها الاتفاق السعودي – الإيراني في السياسة المُنسَّقة بين واشنطن ودول الخليج باتّجاه إيران، ويمنح واشنطن فُرَصةً من أجل استعادة الضغوط على إيران، بما يدفعها لتعديل سياساتها.
فهذه التحركات مجتمعة تضمن لواشنطن بيئةً أمنيةً مواتية لنجاح رؤيتها في السيطرة على مسار تدفُّق المصالح الاقتصادية من الشرق إلى الغرب، أي يضمن نجاح مشروع طريق الهند – الشرق الأوسط – أوروبا، وهو المشروع الذي تضعه واشنطن كطريق منافس أو بالأحرى طريق بديل لمشروع الحزام والطريق الصيني، ونهْج جديد لصياغة العلاقات الاقتصادية على الصعيد الدولي، والتحالف الأمني إلى جانب التحالف الاقتصادي، الذي هو مبادرة لجذب دول المنطقة إلى صفّ الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وإبعادهم عن الانخراط في المبادرات البديلة المطروحة من الصين وروسيا.
سوريا… ساحة مصغرة للتحالفات الهجينة
بطبيعة الحال انعكست الحالة الديناميكية، التي ضجت بها منطقة الشرق الأوسط على الساحة السورية، التي أخذت فيها التحالفات أشكالاً متعددة منها استراتيجي ومنها تكتيكي مرحلي بمصالح حملت طابعاً انفرادياً أحياناً وأحلافاً متعددة أحياناً أخرى، فيما تشكل العوامل الإقليمية والدولية إطاراً صعباً لإمكانية وصول المفاعيل المحلية إلى أي هدف.
باستثناء ما يتقاطع منها مع مصالح عدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، وفي مراحل معينة تكافح الشعوب لنيل حقوقها وفق آلية التعاطي الفعال مع هذه التدخلات الدولية بما يصب في نهاية المطاف مع تقريب وصولها لهدفها، إلا أن منهم من أضاع البوصلة ليصل بعيداً عن قيمه وفي أفضل الأحوال بات في بوتقة الارتهان والارتزاق.
موسكو وطهران على سبيل المثال تتعاونان معا عبر مسار مفاوضات أستانا ولكل طرف منهما علاقات وطيدة مع حكومة دمشق، فموسكو تجمعها علاقات تاريخية مع دمشق منذ أيام الاتحاد السوفياتي، وكذلك الأمر لإيران، لكنهما تختلفان فيما بينهما على بعض الاستراتيجيات.
وبينما اهتمت موسكو بشكلٍ أساسي بمناطقٍ ساحلية في سوريا بعد استثمارها لميناء طرطوس وإنشاء قاعدةٍ عسكرية في اللاذقية، وبشكل أقل بمناطقٍ أخرى تقع شمال وشرق سوريا، ركّزت طهران على تواجدها بالقرب من الحدود السورية – العراقية، إضافة إلى الجنوب السوري على مقربة من إسرائيل، وفي الجنوب الغربي على مقربة من مناطق حزب الله في لبنان، وهو ما يعني أن التنافس بين الجانبين لا يقع بالدرجة الأولى ضمن النطاق العسكري فقط.
على الرغم من النفي المتكرر لوجود تنافسٍ “روسي ـ إيراني” في سوريا، إلا أنه لم يعد ممكناً إخفاء هذه المنافسة على الأراضي السورية، والتي تشمل مختلف المجالات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية، وذلك منذ دخول تلك الدولتين على خط الأزمة قبل سنوات.
فيقول متابعون للشأن السياسي داخل سوريا، إن “أبسط أوجه هذا التنافس تعليميا أقلها تجلى في أواخر كانون الثاني، مع إدراج اللغة الفارسية مادةً اختيارية ثانية في المناهج الدراسية، وذلك بعد مرور نحو أربع سنوات على إدراج اللغة الروسية في المقررات الدراسية.
لكنهم يضيفون، أن “الروس والإيرانيين يتنافسون في قطاعاتٍ أخرى أهم، بدءا من السياسة مرورا بالاقتصاد والنفوذ العسكري على الأرض، لكنهما مع ذلك “يتفقان بشأن مستقبل سوريا ورئيس نظامها الحالي”، على ما تؤكد خبيرة في شؤون روسيا الخارجية.
التنافس الإيراني الروسي على الرقعة السورية زاد من حدّة وتصلب الموقف بين كلا الجانبين لأسباب اقتصادية وعسكرية وسياسية وهذا ما يترجمه الصمت الروسي حيال الهجمات الإسرائيلية على سوريا وموقف موسكو من هضبة الجولان المحتلة، ومحاولة بعض الفصائل الإيرانية المسلحة التوسع والانتشار على حساب الوجود الروسي.
فاختلاف الاستراتيجيات بين الطرفين أدى إلى وجود حالة التنافس هذه، لكن الأمر لن يؤثر بشكل كبير على علاقاتهما، لأنهما يتقاسمان المغانم مهما كان التنافس محموماً على الرغم من اختلاف الأديولوجيات والمشاريع الخاصة، التي تقع في نطاق المصالح الضيقة والقصيرة المدى، لذلك يتفق الروس مع الإيرانيين إلى الآن على أقل تقدير حول مستقبل سوريا وحكومة دمشق وبقائهما.
الخروج من عنق الزجاجة 
فهذه الأمواج من المصالح، التي تتقاذف شعوب المنطقة يمنةً ويسرى تفرز عدة معطيات وتطفو على سطحها مجموعتان أساسيتان من الفاعلين المحليين، الأولى ترتبط بعقلية التغيير السياسي والاستقلال والحرية والديمقراطية، والثانية ترتبط بعقلية المحافظة على الوضع القائم في تحقيق المصالح النخبوية للحكم مع علاقاتها الإقليمية والدولية، في مشهد متعدد المشارب والعوامل ومتغير التحالفات.
ليقبع الشرق الأوسط برمته تحت ضغط هذه المتغيرات الجارية، وبتأثيراتها المتعددة وتبقى الملفات العالقة في دائرة الجمود، الذي لا يسهم في خلق حالة من السلام في المنطقة بسبب الانقسامات العمودية فكرياً وسياسياً إزاء تلك الملفات لذلك، فإن المشهد السياسي القائم في المنطقة مشهد متحرك يحمل الكثير من الفرص والتحديات لمختلف الأطراف، ولا يتمتع فيه أي طرف بالسيادة والتحكم على وجه الإجمال، وبناءً عليه فإن الأفق الاستراتيجي والأبعاد الاستراتيجية للمشهد لا تزال تحاول تشكيل روافع لها، كلٌّ من موقفه ووفق برنامجه.
وهذا ما وضع الشرق الأوسط لأول مرة في تاريخه بحالة عارمة من الفوضى القائمة إلى هذا الحد، الذي أسهمت فيه التدخلات المختلفة في تعميقها، وتمثل الساحة السورية والعراقية واليمنية والليبية صورة مزرية لحالها، فبالرغم من أشكال الفوضى، التي عانت منها قارات ودول على مدى تاريخها الطويل، لكنها لم ترقَ لما يعانيه الشرق الأوسط من أزمات معقدة وشائكة وتنافس محموم جعل منه ساحة صراع وحلبة مواجهة فبات من الضروري بمكان الانتقال إلى حالة جديدة من التوازن السياسي والاستقرار وتراجع فكر الإرهاب والتطرف والفوضى لصالح الفكر الديمقراطي التعددي القائم على العيش المشترك بكل تفاصيله وتقبل الأخر.
وعندها سوف تتغير معادلات السياسات الإقليمية والدولية شكلاً ومضموناً، ويكمن ذلك من خلال إنشاء منصة خاصة بالشرق الأوسط للحوار المنتظم، هو مفتاح الحل وتكون هذه المنصة مفتوحة للأطراف كلها في المنطقة بعيداً عن المصالح والمنافع الخارجية، التي تتقاطع مصالحة تارة وتتوازى تاراتٍ أخرى وذلك يصب في سياق خلق استراتيجية واقعية قريبة المدى في تولي الأولوية لدعم قدرة الشرق الأوسط على منع الصراعات المستقبلية وخلق حالة من الاستقرار والسلام الدائم الذي سيلقي بظلاله على الواقع المرير المعاش اليوم وتحسينه بما يخدم مصلحة الشعوب المتعايشة على هذه الرقعة الجغرافية.