سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الدولتية القوموية في الإقليم تنوء بأوزارها

محمد عيسى_

إن المتتبع اليوم لأحوال الدول والمجتمعات في منطقة الشرق الاوسط وفي سوريا وجوارها يلاحظ أن الظاهرة الدولتية القوموية، في أبشع صورها وفي أسوأ مآلاتها، هي الانطباع الأبرز الذي بات يخيم على مصير الشعوب والمجتمعات القائمة.
أو يرخي بظلاله على السلم والاستقرار العالميين. فالدولة القومية ذات اللبوس الإسلاموي في إيران ونظيرتها في تركيا وإلى حد مشابه أيضاً في الدولة العبرية التي تحكم سيطرتها في إسرائيل ــ تُقدِّم كل واحدة منها وعلى طريقتها صورة حية ــ عن نموذج الظواهر الدولتية التي تحدثت عنها الأوجلانية الفكرية من حيث ظروف النشأة وضروب تصاعد مخاطرها على شعوبها، وفيما بينها، كما في طريقة انتشارها.
ولأن كانت الولادة الأولى للظاهرة قد شهدت النور في الساحة الأوروبية مع انطلاق الثورة البرجوازية في أواسط القرن السابع عشر، وقد استمدت زخمها بالاعتماد على ازدهار الصناعوية وزيادة إنتاج السلع، وبالاستناد على نمو أنماط البرجوازية التجارية وعبر البحث عن الأسواق وتوسيعها.
فإن الرؤية الأوجلانية تعيد واقعة الدولة القومية الرأسمالية الحديثة بكليتها إلى لازمة عضوية لم تكن لتنشأ بدونها، وهي لازمة ((الحروب)) باعتبارها وسيلة النمو الأساسية والطريق الحتمي لنشوء الأسواق؛ بمعنى أن النزعة القوموية في الدولتية الحديثة هي ((ابنة الحروب))، والحروب تعمل على وقود النزعات القومية وتذهب بالتشخيص إلى ربط حروب نابليون مع إيقاظ النزعة القومية، هذه الحروب التي كان مستحيلا عليه خوضها دون العزف على المشاعر القومية الفرنسية، والتي هي عينها  كانت تقف خلف النزعات النازية منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وعلى ضوء الرؤية نفسها يمكن أن نستنتج أن المجتمع الديمقراطي المدني في بلدان الغرب الرأسمالي؛ قد نجح أخيراً ــ بفعل معدلات تطوره ــ في تخفيف القبضة الدولتية وفي ترشيد النزعة القومية عبر دفع الكيانات القومية إلى الانخراط المتزايد في اتحادات كونفدرالية على شاكلة الاتحاد الأوروبي ومثيلها في تركيبة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالاعتماد على فعالية ((مجتمع الأخلاق السياسي)) المتبلور في حياة المجتمعات الحديثة، والذي من روائزه الأساسية، التعبير عن مصالحه والقدرة على انتزاعها؛ نجد أن الوضع في منطقتنا يسير باتجاه آخر، حيث تُمارِس الدولتية القومية غُلوَّاً غيرَ مسبوق في اعتماد نهج الحروب فيما بينها لتمرير مشاريعها، وغلوا مشابهاً في مُصادرة الحريات ومعاداة الديمقراطية.
فالدولة الإيرانية على سبيل المثال ومنذ أن تكرَّسَ فيها نظام الاستبداد الشمولي الديني والتوسعيُّ النزعةِ، وهي تخُوضُ نوعين من الحروب ــ ((داخلية)) ضد تطلعات شعبها نحو الديمقراطية والتحرر. كان أبرزها في العام 2009 حين تصدت قوات الباسيج لتحركات عشرات الملايين من المحتجين الإيرانيين على عملية تزوير الانتخابات، وآخرها في الثورة النسائية المستمرة حتى اللحظة بعد استشهاد الشابة “جينا أميني”  على يد ما تسمى بشرطة الأخلاق بحجة عدم ارتدائها الحجاب الشرعي، وحروب ((خارجية)) طالت ومازال أُوارُها مستمراً في دُول عديدة من بلدان الشرق الأوسط والمنطقة العربية؛ بقصد تكريس وبسط نفوذ الدولة الاسلاموية الشيعية والفارسية في منبتها وهويتها.
هذا النمط المتهالك في درجة إلحاحه على مخالفة قِيَمِ العصر والمتصادم إلى حدِّ التناحُرِ مع مشروع إسرائيلي في مواجهته هو نفسه من حيث الجوهر في تركيا الأردوغانية الإخوانية والعثمانية البالية مع اختلافات طفيفة في الشكل، لكنها الأشد عراقة في بنيتها الإجرامية الدولتية المتأصلة في عدائها لتطلعات الشعوب الواقعة تحت نفوذها والتي تقول جميع المؤشرات أنها تتجه نحو استحقاقات احتضارها، ولأنها قد حشرت نفسها في نفق الحروب والأزمات الحادة وعلى جميع الأصعدة؛ فالسياسة التركية متورطة ومنذ عقود في صراعات المنطقة وتسعى إلى فرض نفوذها الدولتي العفن في أكثر من منطقة في الشرق الأوسط والعالم عبر امتطاء حركات الإسلام السياسي.
هذا التورط الذي يُوشك أن يبلغ مدياته القصوى ــ في خطوة أردوغان الأخيرة ــ والتي جرت البرلمان التركي ذي الغالبية المحسوبة على العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتطرف إلى منح التفويض له بصلاحية إعلان الحرب. وبالمقابل لا تفوت هذه السياسة فرصة للتضييق على إرادة شعوبها بمختلف وسائل القمع والتسلط، والتي كان آخرها اعتماد الأحكام الجائرة بحق قيادات الأحزاب الكردية والتي تخص الرئيس المشترك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي “صلاح الدين ديمرتاش” ورفاق آخرين، وفي زيادة حالة الاحتقان بعد تشديد العقوبات التي تفاقم ظروف العزلة على القائد أوجلان.
وبالعودة إلى ماهيات الدولتية القومية العقائدية في كل من تركيا وإيران، يمكن تسجيل ملاحظتين، الأولى تقول: رغم التناقض بين نَمَطَيْ الدولتين، التركي والإيراني، والذي بلغ حدَّ الصدام أحياناً في المشهد السوري لكنه كان أقرب  للصيغة التنافسية السلسة منه إلى التناحر بشكل عام، والثانية: بروز عوامل تحالفية صريحة بينهما مع تطور  التحدي الإسرائيلي والذي تجلى بتقاطعهما في دعم حماس الاسلامية الفلسطينية وباقي التنظيمات الجهادية الأخرى. هذا التحالف الذي جرى مثيلاً له في الصراع مع النازية الألمانية وإن كان بأدوار معكوسة هذه المرة، ويجب أن يكون واضحاً: إنَّ الدولتية الاسرائيلية، التي تمارس مشاغل توسعية واستيطانية على حساب العرب الفلسطينيين، لكنها تحمِلُ بُعداً مزدوجاً؛ فهي من جهة؛ دينية استئصالية تحمل نزعة القوة والتعسف وامتهان لغة الحرب والإبادة لخصومها، ومن جهة أخرى؛ تحمل هوية مدنية ديمقراطية علمانية في مناحي عديدة وذلك بالنظر لانحدار مكوناتها من مجتمعات حداثوية متطورة وبفعل مقتضيات تحالفها مع الدول والمجتمعات الغربية الرأسمالية الحديثة والتي باتت تنفك عن ضوابط الدولتية القوموية إلى دائرة التجمعات والاتحادات الكونفدرالية والمعولمة.
نخلص إلى نتيجة حاسمة مفادها هو حتمية الصِّدام التناحري ــ وخاصة بعد انطلاق حرب غزة الأخيرة ــ بين نموذج الدولتية في اسرائيل ونظرائها في الإسلاموية التركية والإيرانية.
ولأن المعادلة الموضوعية التي تتحكم بموازين هذا الصراع ترتب على اسرائيل، إن شاءت الفوز بهذا الصراع، أن تجترح حلولاً في الإقليم من نوع الاعتراف بحل الدولتين والذي سيكون من لوازمه ثم من تبعاته الخروج من حالة الحرب مع الفلسطينيين ومع دول الجوار إلى نحو ترسى فيه قواعد الكيانات الفدرالية العلمانية التي تحترم حقوق الجميع وحرياتهم في إسرائيل وفي عموم المنطقة.