سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

هجــرةُ الــرُّوحٍ نحــو منـــازلَ وديـــارٍ بُلـِيـَتْ

محمد العبد الله_

أنصفنا الدهر بحتمية المصير والبِلى، وأكرمنا التناسل بالكثرة، وابتلينا بالتذكر والحنين، واختُبرنا بالمصائب والفتن، وفُطرنا على حب الأمكنة، والشوق لمساقط رؤوسنا، فلا نسلوها، وتظل منارة هدي لنا، نعوذها من تقلبات الزمن، ونوجه نحوها جباهنا وعيوننا، ورياح شوق قلوبنا، وإن نأينا عنها. فلا تسألنَّي، وإن بان المكان بنا عن نزفة دمع من عين أسيفة، نزلت وحيدة بين أطلال دُثِّرت مبانيها، ولا تسألنّي، وإن طاف الزمان بنا، عن وقفة بين آثار دار، نأت عنا ملاقيها، وقفْ حولي عدَّ أياما كان النأي قاضيها، واستجمع سؤر أحلامي، وأهوائي، نرجعْ أطياف أيام، بانت عنا مراميها، ومرّ بي في ملاعب الحي، وأحاديث كنا نرويها، وعرّج إلى أيام سعيدات، كنا بالحب نطويها، فهذي الحياة لا تبقي على أحد، وإن رام الأنام خُلدا من مجاريها.
فحين يُنحت المكان وشمًا على شغاف قلب، ونقشاً في حدقة عين، وشعورا بالانتماء، كان لزاما عليه أن يرتبط بالشعور الداخلي للمرء، والتنقيب عن خبايا ذكرى، ودلالة ذاتية في أثار دُرِسَتْ، ومساكنَ بُلِيتْ، فتبقى الديار والمنازل حاضنة ذاكرة الإنسان؛ يستقي منها معارفه، وعاداته، ومزيجه الثقافي، وموروثه اللُّغوي، ونماء شخصيته، فتكوِّن الديار والمنازل، والمكان ثلاثية الذات لدى الإنسان كالرحم، الذي ضمه جنينا، ويأبى أن يفارق أمه، فهو يحنُّ إليها ويشتاق، وإن هجرها إلى بلاد بعيدة، وأرض غريبة، وبهذا المعنى الشمولي؛ غدت الديار والمنازل والدِّمن عند الشعراء، والأدباء، والفلاسفة شعورًا بالانتماء وبالعودة، وروحا هتوفاً، كلما جال في الذاكرة رسم وخيال المحبين، يقول الشريف نظام الملك أبو الحسن على الفاطمي، ويعرف بالأخفش:
“أحبابنَا لم تذقْ عيناي مذ بَعُدَتْ
عنِّي منازلُكم غمضًا ولا وسنا
ولا وجـدت لقــلبي من يُسرُّ به
 ولم ترَ العينُ شيئًا بعدكم حسنا”
وللأمكنة أرواح هاتفة لأهلها أبد الدهر، فهي لا تَهرُم، ولا تَشيخ، ولا تطفأ جذوة توقد حنينها، ولا تغفو عيناها، لكن قد يشوبها ضعف وسلوى، ولهذا كانت الشعراء تقدم لقصائدها الطوال مقدمة متعلقة بالمكان، وآثار الديار، ضمن فلسفة التذكر والاستيطان، فيصير المكان عنصرا، وبيئة مركبة من عناصر عدة للارتباط، والصور، والأخيلة، والعلاقات التشاركية والتفاعلات بين الشاعر، ودلالات المكان؛ حتى تصبح المنازل والديار الزاد الفني، والدلالي للصورة الشعرية في تحفة العمل الأدبي، ومستودع التراكيب، والألفاظ، والصور، ومفردات اللغة، ودلالتها، ولمَّا كان الشعر منذ وجوده مقدما الرؤية التاريخية للزمن، الذي قيل فيه، عمل الشعراء على فلسلفة الديار الزائلة، والمتروكة منهجا تقليديا يسيرون عليه للاسترجاع، والذكرى، ومقياس المتانة الجزلية للفظ، والمقدرة على التصور، والتخيل، يقول أحمد بن طيفور:
“يا مَـنزِلاً لَعِـبَ الــزَمانُ بِأَهلِهِ
طَــوراً يُفـَرِّقُهُم وَطَوراً يَجمَعُ
أَيـنَ الـَّذينَ عَـهِـدتُهـُم بِكَ مَرَّةً
كانَ الزَمانُ بِهِم يَضُرُّ وَيَنفَعُ”
وهنا وفي هذا المنظور النفسي للديار، والمنازل عَجَّ الموروث الشعري بقصائد تذكر، وبكاء، وحسرة، لشعراء مروا بديارهم فغيرتها صروف الدهر؛ حتى أصبح التذكر، والبكاء على أطلال المنازل فنا قائما في الشعر العربي حديثه، و قديمه، له أصوله وقواعده، فاستوت على قمة الهرم الشعري مقدمة طللية لا يمكن فصلها عن جوهر القصيدة عامة، يلجأ إليها الشاعر مناجيًا فيها من سكنوا، ويلقي اللوم عليهم لارتحالهم، ويناجي بقايا الديار في صور ناطقة، لما حل بالحمى في أغراض الشعر عامة من مدح، أو رثاء، أو غزل، أو وصف، أو حكمة، يستوقف فيها من معه بالتذكر، والشوق والحنين والبكاء على أثار بُليت ودُرست، ويحلل الآثار، ويوردها في منظر متحرك للعين، وبألفاظ موغلة في الحزن والبكاء والحسرة، وسط صحراء قائظة تذري الرياح بساحاتها الرمال والأتربة بدءا ومرجعا، الصمة القشيري:
“أَمِنْ أَجْلِ دارٍ بالرَّقاشَيْنِ أَعْصَفَتْ
عليها رياحُ الصَّيفِ بَدْءًا ومَرْجِعا
أَرَبَّتْ بـها الأَرْواحُ حتـى تَـنَسَّفَتْ
مَعارِفُــها إلاّ الصَـّفيـحَ المُوَضَّـعا
وغـيـرَ ثَــلاثٍ فـي الــدِّيـارِ كـأنّها
ثلاثُ  حَمَاماتٍ تَقابَلْنَ نُزَّعَا
بَكَتْ عَينُكَ اليُسْرى فلمّا زَجَــرْتَها
عَنِ الجَهلِ بعد الحِلْـم أَسْبَلَتـا مَـعا”
ومن قبيل المحبة وارتباط الإنسان بالمكان، وبالعناصر المؤلفة له، تبدو للمنازل وللديار علاقة وثيقة، وحنين لا ينضب، ولا يخف، وإن جرفته رياح الاغتراب إلى أرض بعيدة، وإلى منازل غريبة، وفي هذا المعنى يقول ابن الملوح:
“نظــرتُ كأنِّـي من وراءِ زجـاجةٍ
إلـى الـدار مـن ماءِ الصبابةِ أنظرُ
فـعـيناي طـورًا تغـرقـانِ من البُكا
 فـأعـشي وطورًا يحسران فأبصرُ”
وتذكر كتب التراث والأدب العربي أبا المُظَفَّر أسامةَ بن مُنقِذ (488هـ -584هـ) الذي ضرب ديار أهله زلزال عنيف في منطقة الجزيرة السورية، فلم يترك لهم أثر عين؛ فأطبق الأرض عليهم، حين ذاك وقف أسامة يناجي الديار والمنازل فعمد إلى تأليف كتاب عُدَّ من عيون الأدب” الديار والمنازل “وقد قال في ذلك شعرا:
“وفـــاجـأتْـهُــمْ مــِن الأَيـــّامِ قـــارِعــةٌ
ســقـتـهُـمُ بـكــؤوسِ الــمـوتِ ذَيـْفـانــا
ماتوا جميعاً كَرجعِ الطَّرْفِ وانقرضوا
هــل مــا تـَرى تــارِكٌ لـلـعـيـنِ إنْسانا
لــم يـتـركِ الــدهــرُ لي من بعدِ فقدِهِمُ
قلــبــاً أُجـــشِّمُــه صـبـــراً وسُــلوانــا”
ومن هنا وبين هاتيك التموجات النفسية لدى الشعراء خاصة، برز للمكان دور وقيمة أدبية كبيرة ومهمة في تقسيم وجهات نظر الأدب؛ حتى أصبح جانبا مهما في القصيدة ، له قوانينه، وانبعاثاته الوجدانية، سار عليها الشعراء الجاهليون منذ الأزل، ثم صارت المقدمة الطللية جزأ من القصائد الطوال، والحوليات يفرّغ فيها الشعراء ذكراهم في أثار ديار بعد عنها أهلها، واستوطنوا في أماكن أخرى، مستلهما حركة الصحراء بفلسفة الشاعر المفارق للديار، وهجران المحبوبة، وبهذا الحزن النفسي أصبحت القصيدة حينما تخلو من المقدمة الطللية ضعيفة هشة، لا يعيرها النقاد قيمة، وفي ذلك أجاد شعراء المعلقات إجادة العالم المدقق، والناظم لتلك الأثار من الديار، والمعالم، يقول زهير بن أبي سلمى:
“وَقَــفْـتُ بِـهَـا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً
فَـــلأيَـاً عَــرَفْـتُ الــدَّارَ بَـعْدَ تَوَهُّـمِ
فَــلَــمَّا عَـرَفْــتُ الدَّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَـا
أَلاَ أَنْــعِـمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ وَاسْلَـمِ”
ويروج الزمن، ويغدو حتى صار المكان بطل أعمال فنية لمخرجي السينما والمسرح، وما استوقفني وأبكاني لقطة ذكية لمخرج فيلم، أن رجلا غادر أهله بلا مبررات، وغاب عنهم لأسباب هو يراها أنها موجبة ومقنعة، ثم مضت السنون، وعاد بعد طول غياب؛ فما وجد المكان كما تركه، مات الأبوان، واختلفت الديار، وهدمت أسوارها، ولا يرى غير رماد الشكوى، يلطخ جدران منزله البائسة، ثم جالت ذكراه في الممر الطويل، فلا يرى غير الأنين، ولا يسمع غير أصوات من راحوا، فتشبث بأسوار الباب الحديدي الصدئ، وصرخ بأعلى صوته، مناديا أباه” أنا ابنك الذي تركك، وترك لك المفاتيح” وقد عدت يا أبي فأين المفاتيح؟ لكن هذا المشهد الدرامي، أضفى عليه الأدباء والمسرحيون ألواناً مختلفة لإعمالهم، التي تربط الإنسان بالمنزل والديار، قال أبو الحسن علي بن مرشد بن منقذ:
“سَــلِ الـمــنازلَ عـمّـَن كانَ يسكُنها
مــن الأحبــَّةِ والإخـوانِ مـا صَنعوا
تُخــبركَ وعـظًا بلا لفظٍ فقد نظرتْ
 آمـلَـهم والمــنايا كــيفَ تَــصْطرِعُ”
وللأمكنة علامة بارزة في الأعمال الروائية السردية والمسرحية؛ حتى أصبح المكان جزءا من النسيج الدرامي، فهو ملهم الروائي والقاص، فمثلا حين كتب نجيب محفوظ ثلاثية قصر الشوق، وزقاق المدق، والسكرية، نرى أن للمكان محوريته في نجاح وخلود هذه الأعمال؛ حتى عُنوِنت النصوص به.
وعند الذات الإنسانية يسمو المكان والمنزل عن كل غاية وهدف؛ فيصبح سرور النفس والسكينة، كما حددته الشاعرة ميسون البحدلية، لما تزوجها معاوية بن أبي سفيان؛ فجعل مسكنها في قصور الخلافة الوارفة، وجعل من يوفِّر لها سبل الحياة الرغيدة، إلا إن ذلك كله لم يغنها عن الحنين إلى الصحراء، والرياح ومواطن الصبا وراحت تنشد:
“لَبَيْتٌ تخــفِقُ الأريــاحُ فيه
أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكل فَجٍّ
أحبُّ إلي من نَقْر الدُّفوفِ
ولُبــْسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيْني
أحبُّ إليَّ من لِبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيْرَة في كِسْرِ بَيْتي
 أحبُّ إليَّ من أَكْلِ الرَّغيفِ”
ومن لطيف حسن الكلام، ومرده إلى غاياته، فإني أحن إلى بيت بين أوراق الذاكرة مُسجَّى، وأتوق إلى جدران صمّاء، تعد سنوات الفراق، وتحصي شموس البين، وهناك وفي المنحنيات البعيدة، أطوي البِيدَ، وأسرج أمواج الرياح، فأعود، وقد ألقى منزلاً قديماً متهالكاً، وداراً سمت عن الديار، أحدثها بصمت واغتراب، فأسمع عويل من راحوا، وألثم مصاريع أبوابها، وأحثو على وجهي حفنة من ترابها، وأجلس بين هاتيك الحجارة، أكتب قصيدة شعرٍ، تعطرها رائحة تنور أمِّي حين كانت تعد خبزَ الصباح، ومن جميل الختام قول المتنبي:
 “لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ
أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنـــكِ أَواهِلُ
يَعلَمنَ ذاكِ وَما عَلِــــمتِ وَإِنَّما
أَولاكُــما يُــبكــى عَلَيهِ العـاقِلُ”.