سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

شَمْسٌ خَضرَاءُ

عامر فرسو_

هذه هي الدّارُ السّابعةُ يا عمّي؛ ولم تخبرْني ما طلبُك بالضّبط!
كانا يسيران جنبًا إلى جنبٍ، فتوقَّف الفتى، ورمقَ العجوزَ مليَّا، ثم أكملَ حديثَه:
يا عمِّي… يا حجِّي… أنتَ قُلتَ: لا تأخذني إلى الأبنيةِ، والشققِ السكنيَّة، فَلا أرغبُ بهَا، ولا برُؤيتها.
تراجعَ الفتى خطوتين مبتعدًا عن حجِّ عميك.
وأردف: وقلتَ، خُذنِي مباشرةً إلى البيوتِ ذات الفنَاءاتِ الفسيحةِ؛ أليسَ كذلكَ؟
ونحنُ من ظهيرةِ اليومِ؛ نتنقَّلُ من بيتٍ إلى آخرَ، وأنتَ فقط تهزُّ برأسكَ، ولا يعجبُك أيٌّ منها!!!!
سارَ العَجوزُ بضعةَ خُطواتٍ، ثمَّ التفتَ إلى الفتى، وهُوَ يسحَبُ شُروالَه لِلأعلَى، ويُحسِّنُ هِندامَهُ:
يَا ولدِي… تلكَ البُيوتُ لا حاجةَ لي بَها، إِنْ كانَ عندك بيتٌ آخرُ، دَعْنَا نَراهُ، وإِنْ لمْ يكنْ؛ فَلا داعيَ لِهَذا الكلامِ كُلِّهِ.
لَحِقَ به الفتى، وتَداركَ الأمرَ، وكأَنَّهُ يرغبُ في تَفَادِي تَوبِيخٍ مِن مُعلِّمهِ صاحبِ المكتبِ العَقاريِّ، إِنْ هُو لمْ يقنعْ هذا الزُّبُونَ بما عندَهُ: نَعمْ عمِّي، الحَقُّ معكَ، ولكنْ، لو فقطْ تخبِرُنِي مَا الَّذي كان يُعيبُ تلكَ البُيوتَ؛ حتَّى لا توافقَ على استِئجارِهَا ؟؟
لَا يعيبُها شيءٌ يَا ولدي، ولكنَّها… ولكنَّها…
لمْ يكملْ حجُّ عميك حديثَه، وسارَ، وهو يُشبك يديه خلفَ ظهرَهِ.
بينما الفتى، توقَّف في وسطِ الطَّريقِ، ويداه تستريحانِ على جنبيهِ، وأَمَالَ رأسَهَ، وكالمهزومِ قالَ: عمِّي الحجِّي، هناكَ بيتٌ آخرُ، ولكنَّهُ بعيدٌ قليلا؛ هناك في حيِّ هليليكي.
لنذهبْ إليهِ يا ولدي: قالها حجُّ عميك، وهو يردِّدُ هليليكي … هليليكي، متأمِّلاً شمسَ نيسانَ الخضراءَ، كما كانَ يحلُو لهُ تسميتَها في غابرِ الأزمانِ.
صعَدَ به الفتى أزقَّةً متعرِّجةً نحو الشِّمالِ، ثم دخلا شارعاً أكثرَ وَسَاعةً.
كانتِ الشَّمسُ قد مالتْ نحو الغُروبِ، فبدَا ظلُّهما طويلاً؛ كان الفتى يحثُّ الخُطا، محاولاً اللَّحاقَ بظلِّه؛ فلا يَقْدِرُ، في حينَ كانَ حجُّ عميك، يتسلَّقُ ذاكَ الظِّلَّ بوهنٍ، وبأنفاسٍ مُقطَّعّةٍ، سبقَه الفتى في الدُّخولِ بشارعٍ ابتلعَ ظلَّه، حينما اتَّجهَ نحوَ الشِّمالِ، لَحِق بهِ حجُّ عميك، ولَمحَ على عَجَلٍ، وهو يَتفحَّصُ الدُّورَ في ذاكَ الشَّارعِ، ثمَّ حدَّثَ نفسَهُ؛ ليتَ تلكَ الدَّارَ ذاتِ البابِ الأزرقِ، يكونُ مقصدَ هذا الفتى….
بعدَ بضعِ خُطواتٍ، توقَّفَ الفتى أمام تلكَ الدَّارِ، ذاتِ البابِ الأزرقِ، وأخرجَ من جيبهِ حلقةَ مفاتيحٍ، وهمَّ بفتحِ البابِ، إلَّا أنَّ حجِّي عميك؛ أوقفَه، فتغيَّرتْ ملامحُ الفتى، وكادَ الحنقُ يأخذُ بهِ، وينفجرُ غاضباً!!
فقالَ الحاجُّ بصوتٍ هادئٍ: لا داعيَ لفتحِ البابِ. أنا موافقٌ؛ سأستأجرُ هذِه الدَّارَ.
استغربَ الفتى، وهُوَ يزِمُّ شفتَيهِ: كما ترغبُ يا عمِّي، ثمَّ همَهمَ بصوتٍ منخفضٍ، “الحجِّي يوافقُ على استئجارِ بيتٍ منْ رؤيةِ البابِ فقط، ولمْ تُعجبْه بيوتٌ عدةٌ، تفحَّصها من عتبتِهَا حتى آخرَ شبرٍ فيهَا.”
غادرَا نزولاً نحوَ الجنوبِ، وابتسامةٌ خجولةٌ لا تفارقُ وجهَ حجِّ عميك، وبريق سُرورٍ في عينيهِ؛ كأنَّهما حصَلا على ضالتِهِما.
بعدَ بضعةِ ساعاتٍ؛ كان الحجُّ عميك، قد استأجرَ الدارَ ذاتِ البابِ الأزرقِ، ثمَّ سارَ عائدًا إلى بيتِ صديقهِ حاملاً عقدَ استئجارِ البيتِ؛ كان يسيرُ قابضًا على تلكَ الورقةِ، وقلبُه يَئِنُ، وتُسرعُ دقاتُه متألِّمةً، وواهنةً علَى صُورِ دارهِ، وبستانِه في عفرينَ، في حينَ كانتْ عيناهُ، لا تقعانِ على شيءٍ أمامَه!
 فمنذُ ثلاثةَ عشرَ يومًا منذُ مغادرتِهِ عفرينَ برفقةِ زوجهِ؛ قصدَ حجُّ عميك مدينةَ قامشلو، وظلَّ في ضيافةِ أحدِ معارفهِ، تاركًا خلفَه أربعةً وسبعينَ عامًا منَ العُمرِ، ودارًا أقامَ سورَها بحجارةً سوداءَ، ثمَّ كسَا بعضَ مداميكها بحجارةٍ بيضاءَ، جاءَ بهَا من قيبارَ ذاتَ صيفٍ؛ فبدتْ كقصرٍ من التَّاريخِ، ومن ورائها تلالٌ لهُ فيها بستانٌ مملوءَةٌ بأشجارِ الزيتونِ المنوَّعِ والوارفِ الظِّلالِ، وأطلالُ طاحونةٍ قديمةٍ، شَهدتْ جدرانُها أسرارَ صباه، وساحاتِ ملاعبَ الحيِّ.
في اليوم التَّالي، وبعدَ أنَ شقَّتِ الشمسُ ثوبَ العتمةِ سافرةً وجهَهَا للأنامِ، وعصافيرُ الفجرِ بدأتْ تشرئِبُّ بأعناقها، تستطلعُ دربَ أجنحتِها، كانَ حجُّ عميك بدورهِ يشقُّ برفقةِ زوجتِه فراغَ ذاكَ الشَّارعِ الرَّحبِ إلى هليليكي.
ولجَ الزُّقاقَ التَّاليَ، ثم دخلَ الشَّارعَ المُنفتحَ على زُرقةِ سماءٍ تعلو جبالاً منبسطةً خلفَ تلكَ الحدودِ الشَّماليَّةِ العمياءِ؛ أَشَارَ إلى البيتِ ذي البابِ الأزرقِ، وتعلُو وجهَهُ ابتسامةُ حُزنٍ.
فسقطتْ من يدِ زوجتهِ حقيبةٌ صغيرةٌ؛ حينما وقعتْ عيناها على سُورٍ مبنيٍّ من حجارةٍ سوداءَ، تعلُوه أغصانٌ لأشجارِ الزيتونِ، الَّتي تجاوزتِ السُّورَ، وحلَّقت في فضاءِ الشَّارعِ، كأنَّها تستقبلُ الزُّوارَ مفترشةً مدى الرُّؤيةِ بجدائِلَها الخضراءِ.
أخذ حجّ عميك يدَ زوجَتِهِ وساعدَها على النهوضِ، متأبطاً ذراعها، فدخلا بتأنٍّ تلك الدار الجديدة؛ مُحدِّقاً في عينيها؛ علَّها تتذكَّرُ فرحةَ دُخولِهِما دارَهم في عفرينَ، منذُ أكثرَ من خمسينَ سنةٍ مضَتْ.
 *- عميك: هو دلالة اسم عمر عند كبار السن في منطقة عفرين وتستخدم بغاية التقدير والاحترام.
**- هليليكي: الاسم المتداول شعبيا لحارة الهلالية الواقعة غرب مدينة قامشلو.
***- قيبار: اسم قرية واقعة بالقرب من مدينة عفرين.