سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عيشة شان.. جوهرة تاج الفن الكردي

ليلى خالد (كاتبة ورئيسة مشتركة لمنتدى حلب الثقافي)_

مسيرة الفن الكردي لا تخلو من المعاناة والنضال، فإلى جانب الفن، يخوض الفنانون معارك ضد الفكر القومي الشوفوني، وضد القيود المجتمعية المعقدة، ومناهضة العادات والتقاليد، والمعوقات التي كانت تمنع الفنانين والفنانات الكرد من أداء ثقافتهم بلغتهم الأم، ولو بجزءٍ من الحرية.
في مقالنا هذا نستذكر معاً ملكة الإحساس وصاحبة الصوت المرهف الفنانة عيشة شان المرأة الحرة، عاشقة طبيعة وطنها كردستان.
للفنانة القديرة عيشة شان دور بارز في إثراء الفن الكردي، والتعبير بصدق عن معاناة المرأة الكردية ومأساة الكرد عبر التاريخ.
تُعد الفنانة عيشة شان من الفنانات اللاتي استطعن أن يصنعن الفن بروح كردية أصيلة، وقد عبرن عن تجارب حقائق المرأة الكردية، والمأساة التي مر بها الشعب الكردي، من خلال أعمالها الفنية، فقد برهنت الفنانة عيشة شان بموهبتها المتميزة، بأن الفن ليست مجرد ترف وتسلية للناس، بل هو وسيلة قوية لنشر الوعي وتعزيز الانتماء الثقافي.
ولدت الفنانة عيشة شان في مدينة آمد بباكور كردستان “شمال كردستان”، وتنتمي بأصولها إلى مدينة أزروم، فقد هاجر أجدادها من مدينة أزروم أثناء الحروب المندلعة بين العثمانيين والروس، وفقدت أفرادا من عائلتها، وضمت العائلة إلى جانبها ثلاث أخوات، وأخ واحد، وهي الأخت الكبرى للعائلة، اسم والدتها “أليف خان” ووالدها “محمد عثمان علي شان”، الذي عاني من مرضٍ مستعصٍ أصابه أثناء أدائه للخدمة الاحتياطية في الحرب العالمية الثانية، وتوفي على أثره، وهي لاتزال طفلة صغيرة.
ترعرعت عيشة شان في كنف عائلة فقيرة وعاشت طفولتها في قرية “عربداشة” داخل مدينة آمد. كان لوالد عيشة شان تأثير كبير في تكوين شخصيتها، رغم وفاته وهي طفلة، وإنعاش موهبتها حين كان المغنون الكرد يجتمعون في دارهم، ويقضون ليالي فنية غنائية بوجود والدها، الذي كان يتقن الغناء الفلكلوري والتراثي، فبدأت الملكة بالغناء أثناء تجمع النساء، كما كانت تتقن إنشاد القصائد الدينية، وترتيل القرآن؛ فكان اللبنة الأولى والأساسية في تكوين موهبتها الفنية.
واجهت هذه الفنانة عقبات كثيرة في مسيرتها الفنية، لتمسك عائلتها بالعادات والتقاليد، التي شكّلت عائقاً أمام أداء الملكة عيشة شان، لفنها وغنائها في الأماكن العامة، لكنها كانت أيقونة في العزيمة والإصرار، حيث تحدّت العقبات، وسجلت أول أسطوانة لها وبشكل سري، وهي لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها، ما دفع العائلة باتخاذ القرار في تزويجها مبكراً، ومن أول من يتقدم لها، للحفاظ على قيم ومكانة العائلة في مجتمعهم، وكان زوجها متزوجا من امرأة قبلها، وكان فارق السن بينهما كبيراً.
عانت ملكة الفن والإحساس المرهف من حياتها الزوجية الصعبة، وفرت مع ابنتها ياسمين الصغيرة إلى مدينة آمد مسقط رأسها، لكن لم يكن مجتمعها رحيماً بها؛ فعانت من نظراتهم السلبية وأحاديثهم المُحطَّة والمُذلَّة، ما اضطر بها أن تقبل بالز
واج من شخص آخر تقدم لها، ويدعى جركس، ولكن كان شرطها في القبول بالزواج منه، وهو ألَّا يمنعها من الغناء، مدافعة بذلك عن إرادتها ومتابعة مسيرتها الفنية بثبات وإبداع أكبر، فوافق جركس وتزوجا لكن القدر المشؤوم رافقها في مسيرة حياتها وفنها، فوقع زوجها وبعد مدة قصيرة من زواجهم ضحية عادات الثأر السائدة حينها في المجتمع.
 أكملت رحلة شقائها بعد أن سافرت إلى عنتاب، وعملت في مكتب لبيع بطاقات النقل الداخلي، إلى جانب أدائها الغناء في إذاعة عنتاب المحلية الحكومية، وأثناء ذلك تعرفت على كبار الفنانين، فطورت غناءها برفقة الآلات الموسيقية الحديثة، وكانت تغني باللغة التركية، وبعد غنائها باللغة الكردية لغتها الأم تم فصلها من الإذاعة، لأن اللغة الكردية كانت ممنوعة آنذاك، فتوجهت إلى إسطنبول عام 1961 بعد وفاة ابنتها الصغيرة، والذي كان له تأثير كبير عليها، وفي إسطنبول قامت بتسجيل أول نتاج لها بعنوان “Ez xezalim” وذلك في عام 1963 وكان هذا النتاج بمثابة ثورة لأنها كانت جرأة كبيرة حينها، أن تقوم بالغناء بلغة ممنوعة، ونتيجة جهلها لحقوقها تم استغلالها من قبل أصحاب التسجيلات، بعد أن علموا مدى تأثير أسطوانتها الأولى، ولم يتوقف تدفق فنها وصوتها الشجي فسجلت أسطوانتين أخريين، وقادت ثورتها بجسارة واندفاع بصوتها الدافئ والعذب.
عيشة شان هي المرأة الملكة والفنانة المناضلة، تصدرت مسارح الغناء إلى جانب كبار الفنانين الأتراك، تهافت عليها العروض الضخمة والمغرية، بشرط أن تترك الغناء باللغة الكردية، لكنها رفضت ذلك، وتمسكت بفنها وانتمائها القومي والثقافي، فغدر بها أحد القومويين الحاضرين في حفلتها وطعنها بسكين، وهي على المسرح، على إثرها تركت إسطنبول وغادرتها بعد أن تعافت من إصابتها فاتجهت إلى ألمانيا عام 1972 فأحيت حفلات عديدة فيها، وفي النمسا، وهولندا، وتمت تغطية حفلاتها إعلامياً، وأجري معها لقاء مطول في إذاعة BBC في لندن، لكنها لم تتأقلم مع حياة الغربة، فعادت بعد أربعة أعوام إلى إسطنبول، وأصدرت أسطوانتها، التي تعدُّ الأشهر آنذاك (Alamanya’ya memo gider) والأكثر مبيعاً.
كان لها أثر كبير في الوسط الفني الكردي؛ فتلقت صاحبة الصوت الحنون والرخيم اتصالات مكثفة، تدعوها لزيارة باشور كردستان، والعراق، ثم ذهبت إلى هناك، وتواصلت مع كبار الفنانين الكرد (محمد عارف جزراوي، وعيسى برواري) والمفاجئة الكبرى كانت في بغداد، حين استقبلوها استقبالاً حافلاً، وأبدوا لها تقديراً مرموقاً تستحقه ويليق بها، لأنها ملكة الفن والمرأة الثائرة الحرة، وسجلت حلقات فنية في إذاعة بغداد، وشاركت مع كبار الفنانين في إحياء حفلات في هولير، ودهوك والموصل، وبغداد، منهم كولبهار ومحمد عارف جزراوي وعيسى بروراري ورسول كردي وغيرهم.
سطع نجم الفنانة، وتألقت بفنها وصوتها الشجي والحنون، وإحساسها المرهف والراقي، فعبّرت عن مشاعرها، ومأساتها بكلمات عذبة تحفر في وجدان المستمعين في كل أنحاء الشرق الأوسط، وبعد عودتها إلى موطنها في إسطنبول تعرضت لضغوطات من الحكومة التركية؛ ما اضطرها للابتعاد عن الأنظار لفترةٍ ما، عانت فيها من ضغوطات نفسية صعبة إلى أن سمح الرئيس تورغوت أوزال الغناء باللغة الكردية، وذلك في عام 1990، فانتهزت الفرصة، وتدفقت مشاعرها وسجلت ثلاثة كاسيتات بلغتها الأم.
أتقنت الملكة الأداء الفني الأصيل رغم أنها لم تدرس في معاهد أو أكاديميات فنية، ولا موسيقية رسمية، وبالرغم من ذلك أتقنت وأبدعت في المقامات رغم صعوبتها على اختلافها، وغنت عن الوطن والطبيعة، والفراق والحب.
 كانت عيشة شان تتقن لغات عدة بالإضافة للغة الأم منها الفارسية، والعربية، والتركية، وخلال مسيرتها الفنية سلكت طريق الإنسانية بعيداً عن دوغمائية الأديان، والمذاهب، وغنت للراعي والفقير، للقريب، والغريب، للعاشق والبائس، للسعيد والحزين، وأبدعت  في أداء سمفونية قدرها وآلامها برقي ونبل، وكان آخر إشراقة لها على مسرح مركز الثقافة، والفنون الكردية في إزمير عام 1992 واستوطن جسدها المخملي مرضٌ مزمن، وابتعدت عن عالمها الفني، وعشاق فنها وصوتها، رافقها في رحلة مرضها ومعاناتها ابنها وابنتها حتى توفيت في إحدى المشافي في أزمير بتاريخ 18-12-1996 كان المؤسف في وفاتها أنها لم تلقَ هذه الفنانة العظيمة وملهمة الفن الكردي المعاصر الثائرة النبيلة حقها في تنظيم مراسيم دفن يليق بها وبدورها البارز في إحياء الثقافة الكردية بنضالها، وأغانيها وتحديها لكل العقبات آنذاك.
لقد استخدمت عيشه شان فنها لنقل رسائل قوية عن التحديات والصراعات، التي تواجهها المرأة الكردية في مجتمع قوانينه وتقاليده تقيد طاقات المرأة وتأطر من دورها البنَّاء بالإضافة إلى انتمائها القومي، فصاغت ببراعة قصصاً مؤثرة من واقعها الريفي والمديني فيما بعد، جعلت الجمهور يفهم ويلامس هذه الواقعية الكردية العميقة بصمتها وروحها النقية.
أخيراً:
المؤسسات المعنية بالشؤون الثقافية والفنية والفكرية مدعوة للاهتمام بالفنانين، وهم مازالوا على قيد الحياة تقديراً لدورهم في التعبير عن ثقافة وفن المجتمعات، وإيصالها إلى أعلى المستويات والعيش المشترك بين الشعوب، وثقافاتها المتنوعة.