سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

القائد عبد الله أوجلان.. مشروع سلام وتعايش تاريخي

عبد الرحمن الرياني  (باحث يمني)_

خارطة المنطقة والدول التي نشأت بفعل اتفاقية سايكس بيكو بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا العُظمى وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من دول مُركبة متناقضة القوميات والإثنيات، لم تكن سوى خارطة لإذكاء الصراعات في المنطقة بين الشعوب والقوميات، في النطاق الجغرافي للدول التي جرى تشكيلها؛ ولا أقول تكوينها، فالتكوين أصيل والتشكيل عادةً ما يكون طارئ وجديد.
 قُبيل سايكس بيكو بسنوات انعقد في الفترة من 1904- 1907 مؤتمر كيمبل بانريمان رئيس الوزراء البريطاني بمشاركة سبعة من رؤساء الحكومات وقرر المؤتمر إبقاء المنطقة في صراع قومي إثني لمدة قرن من الزمان وجاءت سايكس بيكو لتترجم على الأرض توصيات المؤتمر، أبرز ضحايا المؤتمر كان العرب والكرد.
نشأت الدول على تلك الحالة من التناقض لتكون أشبه بصناديق البارود التي ستنفجر تِباعًا حسب مقتضيات النطاق الجغرافي المركب، والذي يتضمن قوميات ظلت متعايشة لمئات السنين ومتحدة للدفاع عن الشرق ضد الغزاة القادمين من أوروبا وأعالي البحار، وباتت الإثنيات والقوميات من خلال البحث عن الذات الثقافية توّاقة للحرية بتفاصيلها الصغيرة وليس بمعناها العام الاستراتيجي.
منذ عشرينيات القرن الماضي والكرد المتواجدين في أربع دول من دول الشرق الأوسط، ويتم التقرّب منهم كورقة للضغط والابتزاز، تستخدمها القوى العظمى للضغط على الدول المتواجدين فيها، ولتعزيز نفوذها في المنطقة، وكانت النخب والقيادات ورموز القضية الكردية تتماهى مع اللعبة (الفخ) الذي جرى نصبه للكرد وللدول المتواجدين فيها، استمر الوضع على ما هو عليه عدة عقود، خلّفت صراعات دامية راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر، ولأن الصراع القومي بأبعاده الاجتماعية والسياسية يكون محكومًا عادةً بقيادات تقليدية تجيد اللعب على المتناقضات دون وعي، فقد كانت الكارثة كبيرة على دول المنطقة برمتها التي ستبقى إرادتها مرتهنة لعقود هذا ما جرى وما يجري الآن.
أمام هذا الواقع المخيف كان لزامًا أن يكون هناك حالة تاريخية لمراجعة الذات وإسقاط المشاريع التآمرية المقولبة التي تنشط من قرن من الزمن مراجعة تكفل إعادة السلام والتعايش التاريخي لقوميات ودول المنطقة بما يُعزز استقلالها الحقيقي ويخلق حالة من التكامل والتوافق بين دولها وقومياتها، هذا ما تنبّه له القائد الثائر عبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستاني من خلال كتابه “المرجع” مانفستو الحضارة الديمقراطية والذي جاء بعد أن أيقن القائد أوجلان أن طبيعة الصراع القومي في المنطقة  محسومة سلفًا لصالح القوى الاستعمارية وأن المنطقة دولاً وحكومات وشعوب هي الخاسر الأوحد من استمرار الصراع.
جاء مانفستو المفكر والمناضل عبد الله أوجلان جرس إنذار لشعوب المنطقة أن حالة التنوع التي أنتجها التداخل القومي والثقافي ببعديه الجغرافي والديموغرافي ينبغي أن يتم توجيهها بصورة صحيحة بعيداً عن مشروع “هانغتون” القاضي بحتمية صراع الحضارات، البديل لدى القائد أوجلان هو تعايش الحضارات من خلال ديمقراطية علمانية تعترف بالآخر الثقافي دون تهميش أو إقصاء وهي رسالة وفق برنامج استراتيجي بعيد المدى، للمنظومة الحاكمة ليس في أنقرة بل في الدول الأخرى المعنية بالوجود الكردي.
 المشروع الذي قدّمه المفكر عبد الله أوجلان يعتبر أن الحضارات المتعاقبة والمتوالية على المنطقة حضارة واحدة انصهرت بها الحضارات الذاتية لكل قومية، لكنها تضل في نهاية المطاف لدى الآخر “الحضاري الأوروبي” حضارة الشرق العظيم، وهي الحضارة التي ينظر إليها الآخر كالحضارة المعادية التي ينبغي له اجتثاثها، بمؤامراته وألاعيبه ومشاريعه المعادية، وهنا يتوقف القائد عبد الله أوجلان ليحدد ملامح الحضارة الجديدة، والتي أهم عناوينها العريضة على الإطلاق أن تكون ذات صبغة ديمقراطية.
معرفة المفكر أوجلان لمسألتين في غاية الخطورة:
 المسألة الأولى: هي أن الرافعة والحامل للمؤامرات والتدخّلات في المنطقة تقوم على توسيع الفجوة وحالة التناقض بين الخلفيات الحضارية للدول القومية، صراع عربي فارسي، صراع عربي طوراني، صراع كردي فارسي، صراع كردي طوراني، هكذا يتم تأجيج التناقضات وتوسيع التباينات بما يكفل استمرار الصراع.
المسألة الثانية: هي أن التدخّلات الاستعمارية في المنطقة تتخذ من عدم وجود الديمقراطية في بنيوية الدول والأنظمة السياسية تشكّل حالة ذرائعية لبقاء الهيمنة على تلك البلدان، وكمحاولة منه في إيقاف تلك الحالة الذرائعية، كانت الديمقراطية ركنًا أساسيًا في المشروع الاستراتيجي الذي أقل ما يمكن أن يوصف بأنه صرخة قوية تتجاوز المخططات الرأسمالية وأدواتها، من شركات عابرة للقارات، إلى منظومة إعلامية مخيفة تعمل على التلاعب بالعقول، حد وصف “هربرت شيللر” في كتابه الشهير “المتلاعبون بالعقول”.
 المشروع “المانفستو” جاء في لحظة وسياق تاريخي توارت الأيديولوجيا وتراجعت النخب لصالح خزعبلات وخرافات أراد صانع السياسة الأمريكية أن يجعلها تستوطن في العقل الجمعي العالمي، من خلال نهاية التاريخ للأمريكي “فوكايا ياما” باعتبار النموذج الأمريكي الرأسمالي هو نهاية العالم.
القائد أوجلان كان ممن تصدوا لذلك وقدّم مشروعه البديل، كحالة لخلاص الإنسانية من أدوات الاحتكارات الأربعة، احتكار السلطة واحتكار السلاح، واحتكار الثروة، واحتكار المعرفة، وعمل على إسقاط الاحتكارات الأربع من خلال الآتي:
بالنظر إلى فكر القائد عبد الله أوجلان فيما يتعلق باحتكار السلطة  يُعتبر القائد أوجلان أحد المفكرين الذين انتقدوا الديمقراطية الإجرائية المُطبّقة في الغرب، والتي أثبتت فشلها وفسادها بكونها أحد مُخرجات ومنتجات الرأسمالية الغربية الحامل الرئيسي للمشروع الاستعماري، أما ديمقراطية القائد أوجلان فهي التي تنحاز للفئات والطبقات والغالبية من الناس، وتسعى بحق أن يكون الشعب بكل فئاته هو العنصر الحيوي، والمحرك لها سلطة الشعب، وأدواتها، تماهيًا مع الديمقراطية المباشرة، وهي حالة تبتعد كثيراً عن ما كان سائداً في الحالات الفوضوية، ويمكن في هذا الإطار أن نرى حالة من حالات التقارب بين القائد أوجلان وروزا لكسمبورغ، من حيث تغليب الفعل الجماهيري وفي نقد الماركسية التقليدية، وفق رؤيته الثورية التقدميّة، ومعارضة القومية، باعتبارها حالة حاضنة للبرجوازية، وفي ذات السياق نقده الشديد للمنظومة العسكرتارية المتسلطة، بكونها تُشكّل حالة لاستلاب الوعي ومنع حدوث التطور الطبيعي للمجتمع المدني، ويقدّم  المفكر عبد الله أوجلان في إطار تصديه للاحتكارات الأربعة السلطة والثروة والسلاح والمعرفة، بدائل حقيقية أشبه بمحاولة هدم لتلك الاحتكارات بدايةً من المشاركة في السلطة دون تهميش أو إقصاء لكافة فئات المجتمع، من خلال التصدي لأدوات الرأسمالية المتوحشة، التي تكرّس صناعة مجتمع الواحد في المئة، فتجد تساؤلاته وإجاباته قادرة على تحريك المشهد الراكد وخلق حالة من الجدل والديالكتيك ستقود حتمًا إلى تغيير المنظومة الاحتكارية ولو بعد حين، وفيما يتعلّق باحتكار قوة السلاح لصالح منظومة الجيوش التقليدية التي تنمو وتتجذّر وتصبح أحد سمات الدولة العميقة، يقف القائد عبد الله أوجلان في مشروعه على حالة من النقيض لتلك المنظومة، باعتبارها قادرة على تفريغ وتطويع مؤسسات الدولة، وهذا ما يقاومه القائد أوجلان في مشروعه الذي يقوم على إيجاد منظومة للتعايش والسلام، تخدم كل دول المنطقة وشعوبها، وتُسقط المخططات القديمة المتجددة من خلال الشرق الأوسط الكبير، أو مشروع الإبراهيمية، وهي مشاريع لا تعترف بالهويات الثقافية ولا تطرح رؤى جديدة بل تعمل على تكريس الهيمنة للصهيونية وللقوى الدولية، وفق رؤية تستهدف اغتيال الهويات ذات البُعد الحضاري كمقدمة لتنفيذ المرحلة النهائية من سيطرة الرأسمالية، وهيمنتها المُطلقة، مرحلة الاستعمار الجديد “الاستعمار عن بُعد” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والهادف إلى السيطرة على المضائق والممرات.