سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مسرحية “سفر برلك” تعيد سرد أيام الجوع السورية

تعددت ألسنة الرواة في العرض المسرحي “سفر برلك” للكاتب ممدوح عدوان (1941-2004)، فالحكاية التي حققها الأديب السوري عن التهجير القسري، الذي تعرض له الفلاحون في بلاد الشام في الحرب العالمية الأولى، تطل على مستويات عديدة من السرد عن حرب الدولة العثمانية إلى جانب دول المحور ضد دول الحلفاء، وعن تفاصيل الرحلة المميتة نحو قناة السويس المصرية، وكيف انتهت بهزيمة نكراء لقوات “الرجل المريض” وموت آلاف الفلاحين العرب في حرب عرفت شعبياً بـ”حرب الترعة”.
العرض الذي أخرجه الفنان عجاج سليم في المسرح القومي في دمشق عام 1994م، عاد وحقق منه نسخة استعادية لفرقة كلية الفنون (إنتاج الجامعة العربية الدولية)، منجزاً مقاربة واضحة لحال البلاد التي يقول لسان حالها: ما أشبه اليوم بالأمس! فخلال ساعتين وهو زمن العرض، يعود بنا المخرج السوري إلى لحظة إعلان النفير العام في البلاد العثمانية في الربع الأول من القرن الماضي. نطل على قرية في ريف حماة ستكون ساحتها ملعباً لأحداث العرض، وانطلاقاً منها ستتعدد الأمكنة المتخيلة من جبهات قتال وبيوت أهل القرية، والحرش، وسواها من فضاءات عمل مخرج العرض على توليفها على مسرح الحمراء الدمشقي.
اعتمد ممدوح عدوان مستويات متعددة لسرد حكايات العرض ضمن سياق تاريخي، فوزع أصوات رواته على كل من شخصية الخالة أم صقر (جودي القراواني) والشيخ عبد الرحمن (غدير أحمد) إضافة لشخصيات أخرى تتحول إلى رواة في لحظة تغريب ملحمية. ومنها شخصيتا صياح وأبو زيد (أحمد حميدي) الذي جسد دوري الرجل الدمشقي ووجيه من وجهاء جبل السويداء. وعلى لسان هؤلاء يتجلى حضور الرواية الرسمية للحرب المأخوذة عن مذكرات كتبها المؤرخ الحمصي محمد إبراهيم الدروبي، هذا إلى الرواية الشعبية التي اشتقها الكاتب من قصيدتين مطولتين لكل من الشيخين صالح المحمد الإبراهيم وسلامة علي متوج، وهما عبارة عن 200 مقطع، كل مقطع منها يتألف من خمسة أشطر، كان الشاعران الشعبيان قد دوناها عن رحلتهما إلى قناة السويس، وعودتهما منها براً عبر فلسطين ودمشق، مروراً إلى قريتهما في منطقة كلخ، ومشتى دير ماما السوريتين.
ينبلج الصراع في العرض ضمن صيغة كورالية بعيدة عن صيغة البطل المطلق، ويدور بين فئتين، مثلت الأولى طبقة الإقطاعيين، وملاك الأراضي، والتجار، والدرك، والشاويش والمختار، وأبو إبراهيم، والمتصرف، الذي نسمع به ولا نراه… مقابل طبقة الفلاحين وزوجاتهم و”غانم وصالح وعباس، مع حميدة، وجفلة، وزلفى، وريمة”.
يبرز عرض “سفر برلك” الظروف الاقتصادية والمعاشية الصعبة لبلاد الشام في بدايات القرن الماضي، وكيف تمت محاصرة دول الحلفاء لها بحرياً، فمنعت تصدير التبغ والحرير الطبيعي والقطن عبر موانئ بيروت وطرابلس واللاذقية. وصادرت السلطات العثمانية بدورها غلال الفلاحين بذريعة إطعام الجيش، مما مهد لمجاعة كبرى في البلاد، ودفع لصراعات طبقية لا تنتهي بتقاسم أراضي الفلاحين بين البيك والباشا والمتصرف. هكذا تبدأ بعد كل نهاية صراعات متتالية تكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية، التي كانت قائمة آنذاك، على شراء المناصب وزيادة الهيمنة على الأراضي من قبل وجهاء المدن وكبار رجال الدين، وما تبع ذلك من بداية شراء اليهود الأراضي في فلسطين.
اعتمد العرض على التراث الشفوي والمرويات والأمثال والتواشيح الدينية في بلاد الشام لصياغة ما يقارب مغناة شعرية. يفتتح “سفر برلك” بمواويل شعبية رافقتها موسيقا حية (غادة حرب، محمد عزاوي) إضافة إلى أغنية “لازمنا الله” لملحنها الفنان أيمن زرقان، والعديد من الفروق والأهازيج التي واكبت أيام الجوع السورية، ومنها “زينوا المرجة” و”شفتك يا جفلة”، وسواها من الأناشيد التي قدمت الممثلين في مواضع عديدة من المسرحية، كجوقة صوتية موحدة، في تناقض مع المعالجة التي حاول ممدوح عدوان أن يقدمها عبر حكايات أشخاص يمثلون نماذج درامية. وهذا مرده إلى الحذف الذي طاول مواضع عديدة من النص، فيما تم الإبقاء على الشكل الملحمي للأحداث التي تتعرض لها الشخصيات الرئيسة في العرض.
على مستوى آخر حاول مخرج “سفر برلك” محاكاة الزمن الذي تدور فيه الأحداث من خلال الديكور والأزياء الشعبية (ريم الماغوط)، لكن قطع الديكور الخشبية ظلت عائقاً أمام حركة 19 ممثلاً وممثلة على المسرح، إضافة إلى أعضاء الفرقة الموسيقية، الذين تموضعوا على يسار الخشبة. ونلحظ ذلك من الستائر السوداء التي قامت بالتضييق على جانبي الفضاء، وأخذت من الحيز المتاح لفضاء اللعب، هذا إضافة إلى المستوى الثاني الذي خصصه المخرج لأكابر القوم ورجال الدين والضباط والجنود، بينما ظلت ساحة القرية واضحة في مجمل مشاهد ولوحات العرض. لم يخلص عجاج سليم إلى إيجاد حل إخراجي لإزاحتها عبر الإضاءة (ليوناردو الأحمد) عند الانتقال إلى مشاهد الحرب وجبهات القتال، وسرقة مستودعات الجند، مع الحفاظ على الأعلام التركية في عمق الخشبة ومقدمتها، ومن ثم استبدال العلمين الفرنسي والبريطاني بها عند دخول قوات الشريف حسين إلى دمشق.
يبدو الخلل في تزاحم المناظر واللوحات مع تبديل بسيط في أزياء النساء عبر الخط الزمني الذي تمتد عليه أحداث العرض، وذهاب رجال القرية إلى الحرب وعودتهم منها. وهذا ما شتت الانتباه وخلط بين الأمكنة والأزمنة التي تدور عبرها أحداث المسرحية، ولا سيما عبر قصة الحب بين مجنون القرية صطوف (عيسى خوري) وحبيبته القديمة التي تتعرض هي ونساء أخريات للاغتصاب والاستغلال الجنسي على أيدي الشاويش ورجاله، إذ تعرض “أيام الجوع” لواقع النساء السوريات في الحرب، وكيف دفعن الضريبة الباهظة مقابل إطعام أطفالهن وأطفال الأسر الأخرى وتعرضهن لأشكال من القهر والظلم.
أحداث كثيرة تتعرض لها مسرحية “سفر برلك” من دون أن تهمل الإبادة الأرمنية عام 1914 على أيدي العثمانيين، وذلك عبر شخصية أرتين (عبد الحميد شيخي) أحد الناجين من المجزرة، والذي يلتجئ إلى أهالي القرية السورية، مثله مثل آلاف من أبناء جلدته الذين لجأوا إلى مدن دير الزور والحسكة والرقة. ويطل العرض على شخصيات فلسطينية وأخرى بدوية في محاولة لتمثيل جميع الشرائح الاجتماعية التي أودت الحرب بهم، وأطاحت بنظامهم الأخلاقي تحت ضغط الجوع والفاقة وانتشار عصابات الطرق بين المدن والبلدات، وانهيار منظومة القيم المتعارف عليها.
وكالات