No Result
View All Result
المشاهدات 0
آراس بيراني_
القسم الثاني:
من تلك المفردات يخوض الشاعر الطفل نهر الخابور، يلهو بمائه، ويجمع أسماكاً صغيرة، يراقب عيونها البراقة الباردة، ثيابه الملطخة بالطين، يتمدد تحت ظلال الحور والزيزفون، يتذكر عاماً فاض به النهر، وابتلع الضفاف، كان وجه الماء رمادياً، فضياً، شاحباً ينعكس على صفحته وجه القمر، وهو يسابق تيارات الماء، وبط نهري كان يشاغب ويصرخ بصخب، يراقب من منبره الشعري ذاكرة مهروسة بالحب، والزنابق والبابونج، مدينة كانت مثله تغوص في طين الربيع ينتظر منها ان تتقد ناراً وتشتعل، وتعلن عودة النهر لضفافه، وعودة البشر إلى حقولهم وإلى حجارة بيوتهم، إلى “سري كانية “سيدة مدن الخابور، وحاضرة مدن الشمال، بعدما عاثت عصابات الإجرام ببيوتها، وطينها، وأسماكها، و”هفرينها” القتل والدمار والفوضى.
“أيها النهر… أين سباق البط والقمر يغفو في وجهك؟… أين فرح الصغار في صخب ماؤك؟… أين خريرك؟ وأنت تبوح للرمل.
تمدح فحولته في قاع قلبك/ متى سأسمع أغنياتك/ ويوماً أراك تشتعل من جديد…؟”
كان الرمل أنيقاً، يخط رسومات، وحرفاً، يرسم صوراً تشبه العصافير، كانت تغوص عميقاً في الطين، تفشل في التحليق مجدداً، ويسدل القدر ستائر ملطخة بالدم على مسرات القلب، تلك البهجة التي لم يكتب لها أن تستمر، أفراح عاركتها الخيبات، فلا يستكين لها الشاعر، فيرفع من جسد النص كيلا، يغور في رمل غادر، وتتحول القصيدة إلى طوفان، محمولة بميثولوجية ضمن حركة تناصية سريعة قادرة على مواكبة حدة الحدث، يمنح النص فيضاً روحياً، وبمزيد من القلق، وفي صخب هذا الطقس تتدفق القصيدة، وتجري سيولها، تجرف كائنات، وبيوتاً ذات أعمدة رخوة، في أمل ان يكشف العمق عن حب دفين ربما يظهر للعلن او للوجود:
“لتأتي القصيدة / والسيول/ لتهدم بيوتاً وأعمدة الرمال/ متى نرى الحب؟/ الأفق عطش”
فكل الخضرة والضحكات، وكل ذاك الزمن البهي الذي كان يعرش بضحكات صاخبة قد آلت إلى رماد، فكل الطرق تؤدي إلى الرماد كاستعارة دلالية، ومدلول سيميائي، فالحرب تحرث الأرض بلهيبها المستعر، وتنشب أظفارها في أعناق البراءة، وتريق دم البشر، وتهتك نسغ الشجر، وتهد البناء والحجر:
” كان هذا الرماد أناساً بيوتاً ../ أشجاراً/ سنابل/ وضعوا أفراح القلب والروح تحت الخناجر يا حبيبتي”
ضمن هذه الصيغة الانتقادية وهذا الرثاء الصامت، التي ليست انتحاباً، أو بكائية، أو استحضاراً لتاريخ موغل في التوحش، إنما هو ممارسة النقد وتفكيك بنية أحداثٍ تاريخية سجلتها السنون بحروف من دم، وهنا تأتي نصوص حروف من رمل لتعبر عن مأساوية تاريخ الكرد، فالكرد شعب له خاصية التماسك السريع، والتفكك الهش كالصخر رغم قساوته يتهشم شظايا، والرمل متفكك… كل حبة تحمل صفة كل الكتلة، في سجل ذاك الشعب النوراني الذي رفع يديه مبجلاً الشمس، والذي هبط من جباله نحو ضفاف أنهاره المقدسة يغرف ماءها، يتوضؤون بالدم، ويكتبون تاريخهم الأزلي بلغة من رمل:
“في طريق الشمس جيئة وذهاباً / يغسل رجال الرمل أجسادهم بالدماء/ وتنقش اللغة الليل باسمك”
يتبع…
No Result
View All Result