سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

جدل الاستشهاد في القاعدة النحوية

عبد الله رحيل_

كثيراً ما يحتدم النقاش، والحوار بين أعمدة النحو المختلفين، مختلفي القاعدة والرأي، مدللين على فكرتهم من آيٍّ في الذكر الحكيم، أو حديث صحيح، قيل في زمن الدعوة الإسلامية، أو قول شاعر جاهلي، كان يتغزّل بحبيبته بين رمال الصحارى، وبين عويل ذئابها، فتصير ألسنة القوم، بين تمثُّل وسماعي، فهنا ينقسم فريقا اللغة العربية إلى فرق، ومذاهب، وشيع؛ ما أضعف الحجة الدامغة للقاعدة النحوية، ويصير القوم والأساتذة، والمعلمون، والدكاترة والصحفيون، والكتاب، والقرّاء، إلى غابة كثيفة الشجر، والأعشاب، تتخللها ظلمة سوق الشجر الغليظة، وهذا ماعناه بعض الكتاب المتخصصين في الشأن النحوي، بنقيق الضفادع، والنقيق، عادة يكون للضفادع المذكّرة، التي تعيش في منطقة قريبة من بركة ماء، ففي هدأة من الليل، وبسكون نجومه، تسمع ضجيجا صادرا من البركة، وربما كرهت الضفادع هذا السكون، وعلى ضوء خافت من القمر، في صفاء سماء ربيعي، تضجُّ موسيقاها؛ لتخترق هذا السكون، وتجمِّل بركتها، وهذا النقيق يصدره ذكر الضفدع فقط، لجلب الإناث إليها في مواسم التزاوج، وكأن الضفدع الذكر يخلق جوًّا رومانسيا لضفدعته، التي أبت قضاء ليلة حميمة معه، فيُغريها بسناء القمر، وبهدوء الليل، وقد نامت الخلق عنهم، أما الإناث فتصدر أصواتا عندما تتعرض للأذى فقط، ليُقْدِم الذكر لنجدنها، وكل مخرج للنقيق معروف في عالم الضفادع، إن كان للنجدة، أو للرومانسية.
ومن هنا جاء الحديث عن جهابذة اللغة العربية، حين يرَوْنَ جملة فيها بعض الخلاف في تأويل القاعدة النحوية، التي تعلموها في أروقة الجامعات، فيرحلون عبر الهواء، وعبر مسافات الزمن إلى عصر امرئ القيس، وعنترة، حاملين سيف النقاش والحجة، ومنجل الخلاف، حتى” ابن الأنباري” قد ألَّف كتابا في” الإنصاف في مسائل الخلاف” ولعنَّي لا أحبذ للقارئ قراءته، فهو عبارة عن نقيق للضفادع، وجملة من الاختلافات، وتفلسف وتدوير للقواعد، والمسائل المختلف فيها، وكل فريق دعم حجته ببراهين، وأدلة تضفي جو التناحر بينهم، ولم يعرف القوم والمختلفون في براهينهم طريقا لإثبات القاعدة، وقياسها على الوجه الأمثل، ولم ينسوا إن القبائل العربية القديمة، ومنها قريش، قد تختلف لهاجاتها، وكلُّها فصيحة، ونحوية، معروفة، وتخدم قواعد اللغة العربية، وخصائصها اللغوية الشهيرة، فلذلك ظهر الخلاف، والتأويل في المنهج النحوي، والقاعدة النحوية، ولهذا اهتم القرآن الكريم في محكم تنزيله، والله، سبحانه وتعالى، قد أورد الجوانب الخلافية، ودلالة المعنى، في لهجات العرب، فقد ضم القرآن الكريم، مدلولات الأدوات النحوية، وحالات إعرابها، وفصاحتها، وبيانها، كلها في التنزيل الحكيم، حتى أبدع علماء القرآن في التفسير والتأويل، واستنادا إلى قواعد اللغة العربية، إن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، والأحرف السبعة: هي وجوه إعرابية فصيحة وصحيحة، وموافقة لقواعد اللغة العربية، كانت قبائل العرب تنحوها في كلامها الشعري أو النثري، لذلك اختلفت بعض الوجوه الإعرابية للغة العربية، فما الحجازية، غير ليس النجدية، وكلاهما يؤديان المدلول نفسه، ولغة” أكلوني البراغيث”، موجودة، واحتواها القرآن الكريم، وهكذا في تفصيل المناحي الأخرى من الإعراب؛ فلهذا لا يمكن لنا أن نصل، نحن الناطقين، والدارسين، للغة العربية، إلى نقيق الضفادع في البرك الهادئة، ومن ذلك ما تمثلنا في ذلك النقيق، هو حديثنا عن ظرف المكان” بين”، فكثير من اللغويين يكرر الظرف” بين” في كتاباته، مدللا حجة ما من الشعر، وكثير منهم لا يكررها، مدللا أيضا بحجته من الشعر، والقرآن، وبهذا تدور الدوائر:
ففي القرآن الكريم، قال تعالى: “فيتعلمون منهما ما يفرق بين المرء وزوجته” البقرة” 102″ عطف الزوج على المرء دون تكرار الظرف “بين”.
وقال تعالى:” وتصريف الرياح المسخّر بين السماء والأرض” البقرة 164″ عُطفت الأرض على السماء، دون تكرار” بين”
وقال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله” النساء “50 عطف الرسل على لفظ الجلالة الله دون تكرار “بين”.
وفي الحديث الشريف: فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة” عُطفت الزكاة على الصلاة دون تكرار “بين”.
وفي الأمثال: أنت بين كبدي وخِلْبي (ظفري)، وبين الرغيف وجاحم التنور(مسعر)، وتكلم فجمع بين الأروى والنعام، (الأروى أنثى الوعل)، ولا تدخل بين العصا ولحائها.
نجد هنا في الأمثلة والشواهد الآنفة، عدم تكرار الظرف” بين”، وهذا وجه فصيح من وجوه اللغة العربية، يجوز الحديث به، وفقا لما ورد من كلام العرب الفصيح.
ومن تكرار الظرف” بين” الجائز أيضا، آيات وأحاديث، وأشعار كثيرة نورد جزءاً منها:
قال الله تعالى: “وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا “الإسراء45”.
والآية: “عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم”. الممتحنة 7″.
 وفي الحديث الشريف:” إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة”.
وفي الشعر:
“ولكن قد أتى من بين ودي
وبين فؤادي غلق الرتاج”
 وفي المثل: بين جبهته وبين الأرض جناية.
وهنا نرى أن التكرار للظرف “بين” قد جاء وفق شواهد متعددة، حيث أن بعض قبائل العرب، تجيز التكرار، وكلها وجوه فصيحة من اللغة العربية.
فيا أيها الراحلون عن الأرض، والمستقرون في لحدها الدائم، عودوا إلى لغتكم العربية الجميلة عودا حميدا، واتركوا ناطقيها يتكلمون بالجائز من أحكامها وقواعدها، وينهلون من جميل أشعارها ونثرها، هذا وجزى الله عني مختلفي الرأي خير جزاء.