على رقعة “الداما” المعمرة، تخوض مجموعة من كبار السن حروبها الصغيرة في طرابلس اللبنانية، حيث تعلو أصواتهم حيناً وتخفت أحياناً لمصلحة التخطيط وتنظيم النقلات في انتظار تحقيق الانتصار العظيم.
وتشير لحظات الانفعال والحماسة التي يقضيها هؤلاء إلى أحد الأنماط التقليدية والقديمة في التسلية، التي تعتمد على التحدي الحقيقي والتواصل المباشر بين اللاعبين وإعمال العقل الاستراتيجي، وهي أمور نفتقدها في كثير من الألعاب الإلكترونية الحالية، إذ يغلب العنف والتباعد الجسماني لمصلحة تكريس دور الآلة والذكاء الاصطناعي.
زاوية “داما” الصيادي
في أحد أزقة الزاهرية المؤدية إلى كنيسة القديس جاورجيوس تتحلق مجموعة من الرجال حول طاولة الداما، يأتي هؤلاء من مناطق مختلفة في شمال لبنان ويؤكدون أنهم يقصدون هذا الركن منذ سنوات من أجل ممارسة هوايتهم المفضلة، وبحسب محمد كنعان الصيادي (صاحب مصنع ومتجر لبيع الموبيليا) بدأت هذه الزاوية بالتحول إلى مقصد لمحبي “الداما” منذ نحو 25 عاماً، حيث يجتمع مع ابنه وجاره داوود حول الطاولة، وسرعان ما يأتي عدد من الأصدقاء كبار السن والمتقاعدين لتمضية الوقت والتسلية، ويلفت الصيادي (80 سنة) إلى أن: “تراجع التجارة والحركة الاقتصادية أسهما في ازدهار هذه اللعبة التي تمرسَ عليها بدايةً كتمضية للوقت”.
ويقصد هذه المنطقة عدد كبير من محبي الداما، واشتهرت إلى درجة باتت معها معلماً للعبة، إذ يشير الصيادي إلى أن: “المجموعة قائمة بصورة دائمة ويأتي إليها أناس جدد كل يوم”، ولا ينضّم اللاعبون الجدد مباشرةً إلى الطاولة، إذ يبدأ الأمر بالوقوف إلى جانب اللاعبين الأساس ومراقبتهم إلى حين تلقي الدعوة إلى اتخاذ موقع على أحد طرفي الرقعة، لتبدأ المنافسة والتحدي بين الحاضرين.
ويتخذ اللاعبون أحياناً موقع واضعي القانون للعبة، إذ يتحدون مع بعضهم على “سيري”، أي الفوز بسلسلة مؤلفة من مجموعة أدوار، ويمازح الصيادي الحاضرين لدى سؤاله عن ارتفاع صوت التحدي، ليقول إن: “الغضب لم يبلغ حد قيام أحد اللاعبين بقتل آخر حتى الساعة”. مضيفاً: “إنها ردود فعل عفوية لا تدوم أكثر من لحظات كرد فعل على نقلة خاطئة أو خسارة”.
لعبة استراتيجية
ينقسم اللاعبون على الطاولة بين جدد ومتمرسين، ويعتبر داوود عكاري (صاحب محل لماكينات الخياطة) أحد اللاعبين الأساسيين، فهو محترف بدأ اللعب منذ 70 عاماً تقريباً، ويشير إلى أنها لعبة مثيرة ومتجددة: “فعلى الرغم من طول فترة الممارسة فإننا نكتشف خططاً جديدة وخطوات إضافية في كل مرة نلعب فيها الداما”.
ويستذكر داوود اللعبة التي كانت جزءاً من ذكريات الطفولة عندما كانت الهوايات تعتمد بصورة كبيرة على القوة البدنية وتنشيط العقل، ففي تلك الأيام لم يكن بإمكان الأطفال شراء رقعة الداما، ولذلك كانوا يرسمونها على الأرض أو على ورقة، ويستعينون بـ “أغطية الكازوز” التي من أجل تمييزها يتم تصنيفها بين “16 غطاء على الوجه، و16 على المقلوب”، وتوزيعها على الخانات المقابلة تمهيداً للتحرك على الـ 64 خانة التي تشكل الرقعة، والعمل لقضم أحجار الخصم، يروي داوود: “كنا صغاراً نقف إلى جانب الكبار ونلاحظ النقلات والحركات لنحفظها ومن ثم ننتقل إلى مرحلة تطبيقها”.
ويؤكد داوود أن: “هذه اللعبة تعلم اللاعب التخطيط والحرب، لذلك عليك إعمال العقل لاستدراج الخصم الذي قد تسمح له باحتلال بعض الخانات من أجل الهجوم الكبير والفوز بالمعركة على الجانب الآخر”، وتعتمد اللعبة على المفاجآت التي لا يلحظها أحياناً الجالس على الطاولة، لذلك تعتبر أية ملاحظة صادرة عن المشاهدين المتحلقين حول اللاعب بمثابة استفزاز كبير.