أوكرانيا دروس وعِبر ـ5ـ

مصطفى بالي_

يقول الخبر: إن القوات الروسيّة وهي تغزو مدينة بوروديانكا الأوكرانية، أطلقت رصاصة واحدة فقط على جمجمة تمثال الشاعر الأوكراني تاراس تشيفشينكو. انتهى الخبر.

ولمن لا يعرف تاراس تشيفشينكو- وأنا كنت واحداً منهم – فببحث بسيط على محرك البحث غوغل سيكتشف أن هذا الرجل كان شاعراً أوكرانياً يدعو إلى استقلال أوكرانيا عن روسيا، ومن ثم إقامة الاتحاد السلافي الاختياري الحر مع الروس في القرن التاسع عشر، إذ إنه من مواليد عام (1814م) ومتوفي في عام (1861م).

قد يقول قائل إن هذا التصرف الهمجي الأرعن يُعبّر بشكلٍ ما عن غباء الجيش الروسي، ودائرة التوجيه السياسي في هذا الجيش، فما جدوى أن يطلق جندي غازي رصاصة على رأس تمثال لرجل رحل عن هذه الحياة منذ (161) عاماً عن هذه الحياة.

لكن الحقيقة هي أن هذا التصرف بالذات يُعبّر عن الهدف الأساسي لأي عملية غزو في أي بقعة من العالم، إنها غزو لذاكرة الشعوب وإبادة ممنهجة للتاريخ و للرموز التاريخية، بغية إلحاق الهزيمة بالرموز وبالذاكرة الجمعية ومتى ما تحققت الهزيمة لهاتين الفعاليتين، تصبح الهزيمة العسكرية تحصيل حاصل، إنها ببساطة انتقام الغزاة من ذاكرة الشعوب التي فكرت عبر رموزها وشخصياتها وقادتها في النهج، مجرد التفكير بالانعتاق من نير العبودية والذل، ورمزية إطلاق الرصاص على الرأس بالذات، هي بمثابة تهديد بالموت لكل أوكراني يفكر أن يكون مستقلاً عن التبعية لروسيا، فمن يطلق الرصاص على رؤوس التماثيل لن يتورع عن إطلاق كل نيران حقده على رؤوس الشعوب، هذا هو القانون الثابت الذي يعمل بموجبه كل جيش غازٍ ضد كل شعب يلهج لسانه بذكر الحرية.

كلفت شخوص حركة كردستان (حجك) نفسها، وبطوعية ومجانية أن تبرر للغزو التركي وكل هذا الإجرام بأنه مجرد خلاف سياسي بين تركيا وحزب سياسي قرر أن يفكر بالحرية، وقرر أن يضحي بخيرة قادته وكوادره دفاعاً عن حق الشعب الكردي في التحرر، حزب قرر إحياء كل الرموز التاريخية للشعب الكردي واستنهاض الهمم من خلال هذه الرموز، فيما قررت تركيا إلحاق الهزيمة بكل هذه الرموز بغية محو وإبادة الكرد من الوجود، حتى بلغت السفاهة بأن وصف هؤلاء تركيا بأنها (أفضل من يتفهم القضية الكردية).

في الحقيقة وللأمانة، فأن تركيا حريصة دائماً وفي كل عمل عدواني أن تُبطن حرب إبادتها برسالة رمزية من التاريخ القديم، أو الحديث للتأكيد أنها لن تقبل كردياً حراً على وجه الأرض ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وأن شعارها منهج عملها قائم على قاعدة أن (الكردي الجيد هو الكردي الميت) بيد أنها أخطأت مؤخراً إذ أن هناك (كرد جيدون) بمعيارها. في عام (2018) عندما بدأت تركيا غزو عفرين، بمباركة ومشاركة حركة (حجك) كانت حريصة على أن يبدأ الهجوم ويتزامن مع الذكرى (72) لسقوط جمهورية كردستان في مهاباد، ولكي تؤكد رسالتها بأن الغاية منها إبادة الكرد الأحرار، فقد غزت باثنين وسبعين طائرة ترمز للذكرى وفي يوم الذكرى (جمهورية مهاباد التي تتباكى عليها حركة الجحوش دجلاً ورياءً).

عندما استولى جيش الاحتلال التركي المتحالف مع قوات حركة الجحوش على عفرين، كان أول ما هُدِم هو تمثال كاوا الحداد وساحة نوروز، في رسالة صريحة وواضحة بأن من يسير على خطى كاوا ويصر على الالتزام بنهج نوروز التحرري سيكون مصيره القتل والتهجير والتدمير، ومن يريد أن يكون (كردياً جيداً) سينعم بجحر يأوي عاره وذله.

الروس لم يكونوا أغبياء، وهم يطلقون الرصاص على رأس تمثال جامد في مدينة أوكرانيّة نائية، كما أن الأتراك أذكياء جداً، وهم يدمرون تمثال كاوا الحداد، ومن يريد معرفة ما يحدث الآن فعليه (أن يقرأ التاريخ إذ فيه العِبر، فقد ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر).