سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

“المسحراتي” مهنة أخفتها الحداثة

تل كوجر/ مثنى المحمود ـ

على الرغم من أن مهنة المسحراتي كانت تلاقي رواجاً واسعاً على مدى العصور الماضية، إلى أنها باتت تتجه نحو الاندثار في ظل تطور التكونولوجيا، والحداثة.
كانت طبلة المسحراتي علامة ثابتة في شهر رمضان المبارك، وكانت تستبدل أحياناً بصحيفة معدنية بسيطة، تصدر صوتاً أقوى، حيث استمرت هذه المهنة لسنوات طوال، منذ فجر ظهورها، حتى غزت الحداثة والتكنولوجيا عالمنا، وأبطلت مثل هذه المهن، حيث أن هذه المهنة كانت تجسد واقعاً تراثياً، وإرثاً حضارياً ذا قيمة معنوية مميزة لدى الشعوب الإسلامية.
الفجر الأول
المسحراتي هو الشخص، الذي يأخذ على عاتقه إيقاظ المسلمين في ليالي شهر رمضان، لتناول وجبة السحور، حيث ظهرت مهنة المسحراتي مع ظهور الدين الإسلامي، وفرض الصيام على المسلمين، حيث لم تكن المهنة معروفة بهذا الاسم، إنما اقتصرت الفكرة على آذان كان يتلوه الصحابي الجليل بلال بن رباح، على مسامع سكان المدينة المنورة، إيذانا منه: أن موعد السحور قد حان، وينتهي موعد السحور حينها مع اختلاف صوت المؤذن، فيرفع المؤذّن عبد الله ابن أم كلثوم، الآذان الثاني، إيذانا منه أن وقت الفجر قد حان، وأن وقت السحور قد انتهى، ويجب الامتناع عن الطعام والشراب.
استمر الحال هكذا، مع تغير أسماء المؤذنين، ولكن بقيت الفكرة هي نفسها، وقد لاقى هذا الأمر رواجاً، وانتشر في جل المدن والأماكن، التي انتشر فيها الإسلام، إذ يعود فجر مهنة المسحراتي إلى ما يقارب ألف وأربعمائة سنة منذ الآن.
عصر الذروة
لاقت مهنة المسحراتي رواجاً واسعاً في مدن العالم الإسلامي كلها، وأصبحت مهنة مؤقتة مترافقة مع حلول شهر رمضان، فابتعدت المهنة عن المؤذن، وأصبح لها من يختص بها، ويعد عهد السلطان المملوكي الكبير الناصر محمد بن قلاوون سنة (684 – 741 هجريا) هو عصر بزوغ نجم مهنة (المسحراتي)، وكان يُدعى ابن نقطة، ولأنّه كان مسحراتياً خاصاً بالسُلطان، فإن مهنته لم تقتصر على إيقاظ السلطان، وإنما تعدتها ليضاف إليها قدر من الأهازيج الرمضانية، والابتهالات، والتسابيح، هذا الذي منح المهنة بعداً آخر، وأصبحت في طور الإبداع، حيث أخذ المسحراتي يضيف إلى ندائه للسحور كلمات منمقة، ومرتبة، ويتعمد أحيانا ذكر أسماء أصحاب المنازل، الذين يمر من جانبهم، ويستمر المسحراتي في هذا الدور طيلة الشهر المبارك، وفي ختام الشهر، يمر على أصحاب البيوت التي كان ينادي لهم بالسحور، ويأخذ منهم أجرة عمله، الذي دأب عليه طوال الشهر.
رواية القرى
تقول المواطنة مريم السالم، التي تجاوزت السبعين عاماً: إن المسحراتي عندهم لم يكن يعرف الدق على الطبل، فاستبدل الطبل بصحيفة معدنية “تنكة” يضرب عليها، وتمنح هذه المهنة عادة لشخص يعاني من فقر الحال، كنوع من المساعدة له، إذا إن الأجر الذي يُمنح له، كان يُدفع في بداية الشهر.
تضيف مريم: إن أهلها مثلاً كانوا يمنحون المسحراتي، بعضاً من دقيق القمح، وآخرون يعطونه مادة السكر، أو برغلاً، أو مواد غذائية أخرى، في حين أن البعض الآخر من سكان القرية، كانوا يعطونه المال، كي يتصرف به مثلما يريد.
وعن معرفة التوقيت الصحيح، الذي يتوجب البدء فيه بالسحور، يقول المواطن مصطفى الخلف، الذي يبلغ من العمر ما يقارب ثمانين عاما، أنه يذكر حين كان فتىً صغيراً، أن والدته كانت تستخدم عبارة “انهضوا لقد وصلت الثريا إلى الباب” والمقصود هنا أن نجم الثريا، قد اقترب، وأن الفجر أصبح قريباً.
يقول الخلف: إن هذا الاستخدام للنجوم كان شائعاً في حالات عدم تواجد المسحراتي، حيث أنهم كانوا يقطنون أحياناً في أماكن بعيدة عن القرى، وخاصة القاطنون في المشاريع الزراعية البعيدة عن القرية.
الحداثة أضعفت المهنة
في الوقت الراهن، وبعد انتشار المنبهات، والأجهزة الإلكترونية المتعددة، باتت مسألة الاستيقاظ في موعد السحور أمراً أكثر سهولة، هنا نجد انقساماً داخل المجتمع، نظراً لوجود فئة من الناس، تحبذ وجود مسحراتي رغم عدم الحاجة الملحة إليه، فمن عاصر آخر أيام المسحراتي يرى فيه عادة محبذة في شهر رمضان المبارك، تضفي على الشهر الكريم رونقه، وجماليته، وروحانيته ،التي يجب الحفاظ عليها، في حين أن الشباب في هذا الوقت يرون أنه في ظل الحداثة، لا ضرورة لمثل هذه المهنة، وأن كل شخص أصبح اليوم قادراً على ضبط  وقت السحور بجهازه المحمول؛ حتى لا يفوته وقت وجبة السحور.
في مناطق أخرى بعيدة عنا، لاتزال هذا المهنة تشكل حالة من فلكلور الشعب، ففي مدينة رفح الفلسطينية لا يزال الصديقان عبد الخالق عطوان، وصديقه محمد شعت، يجوبان الشوارع من أجل إيقاظ السكان هناك بطريقة جميلة، معتمدين على طبلهم وبعض الأهازيج الرمضانية، والابتهالات التي يحفظونها، متحدين الحداثة، ورافضين بذلك فناء هذا الطقس الرمضاني الجميل.