قامشلو/ دعاء يوسف ـ
امرأة سارت في طريق الكفاح، صانعة من الصعاب جسراً، تمرّ عبره إلى الجمال، حاملةً أحلامها على ظهرها في حقيبة العمر، لتخرجه للواقع في صورة فريدة من نوعها.
فنٌّ وإبداع… رؤية لروح الأشياء ولجوهرها، أنامل أعياها التعب، وتعاقبت عليها الأزمنة؛ لتترك بصمتها، في أثر جميل، خرجت الأجيال، وزرعت في قلب الأطفال حب الفن؛ لتعلمهم كيف يصنعون الإنجازات، أبدعت بتحويل الأشياء من جماد إلى لوحة فنية، تظهر فيها الحياة حلوة جميلة، فأخذت من النفايات عملاً إبداعياً جميلاً، مستفيدة من إبداع يديها في خضم هذا الواقع الاقتصادي المتردي، ومجابهة صعاب الحياة بفنها الراقي، المدر عليها قوت يومها، وصانعة فن تحتذي به الأجيال.
تجلس طويلا أمام تلك المخلفات المهملة، غير آبهة بتعب أو أعياء، وهي تصنع الإنجازات، لتخيط ثوب السعادة من أشياء مهملة متروكة، فقد رأت في عينيها الخلاقتين، ما لم يره غيرها، فعندما تنظر إلى لوحاتها، وقطعها المصنوعة بكل احتراف، ترى الفن الأصيل، وترى بين ثناياها الجمال الساحر، الذي يأخذك إلى آفق آخر، ولكنك عندما تطيل النظر إلى ما تشاهد من تحف فنية، ستجد تلك البراعة في تحويل النفايات المهملة إلى قطع فنية يحار منها الراؤون.
وفي نظرة ناقدة لتلك المخلفات فهي لا تعدها أشياء متروكة تالفة، بل تبحث عن روح الجمال فيها، منطلقة من رأيها السديد: “الجمال في الأشياء موجود دائماً، وما علينا سوى العثور عليه”.
العمر مجرد رقم
قطرية امرأة مثلها مثل الكثير من نساء مدينة قامشلو، سعت لحلم راودها في الصغر، فسارت على درب الكفاح حتى حققته، درست الفنون، لتعلمها للأطفال في المدارس، زارعةً في داخلهم بذور الجمال، ناقلةً حبها لهم، وسقته ليكبر بين الأجيال جيلا بعد جيل.
تقاعدت إلا أنها لم تترك شغفها بالفن، بل وجدت بالتقاعد فرصة أخرى، لتنطلق من جديد في عالم فنونها الخاصة، وها هي اليوم بعد عمر ناهز الخمسين عاماً، تقف مع تحفها الفنية في ساحات المعارض والمهرجانات، تشد الانتباه إلى ما تصنع من زينة منزلية، ولوحات فنيه، مثيرةً إعجاب الناس، فتجد الكثير، يتهافتون على ما تصنع من تحف فنية.
“لقد كبرت بالعمر، ولكن شغفي لم يكبر، ما زلت أريد أن يرى الناس الجمال في المهملات، التي يرمونها، فلكل شيء قيمة، حتى لو مرّت عليه السنون، وعملي أن أجعله يولد من جديد”، هكذا علقت قطرية على حبها للفنّ، وإكمالها لمشوارها مضيفةً: أن العمر مجرد رقم، يقاس بعدد الانجازات التي حققها المرء.
الإبداع الفني من النفايات
فقطرية لا ترمي شيئاً، بل تستفيد منه، في صنع تحف تزين فيها المنازل، فمن قشور الفستق الحلبي، وقطع الخشب تصنع لوحات فنية جميلة تزين بها الجدران: “أعمالي تتركز بشكل كبير على قشور جوز الهند، والفستق الحلبي، والصدف الملون؛ لأنه يبعث السكينة في روح من يشاهدها”، سبعة وعشرون عاماً قضتها قطرية في صنع تحفها الفنية المبدعة من قطع متروكة في قارعة الطريق.
زيّنت قطرية طاولتها، التي كانت تعرض فيها قطعها الفنية، بأقمشة ذات ألوان بديعة، لتصفّ عليها قطعها واحدة تلو الأخرى، وكل قطعة تحمل قصة، فقشور القرع التي ترمى في العادة، تقف هناك متزينةً بحلتها الجديدة، كي تستخدم كأداة للضيافة، أو يوضع فيها إكسسوارات الزينة، وبرادة الخشب، وبرادة أقلام الرصاص، تتوسط أحد اللوحات الفنية على هيئة زهور متناظرة، فذلك الغصن المرمي في الأزقة، وعلى الطرقات يحتضن بضع صدفيّات ملوَّنة، وقطع الكرتون التالفة تحولت إلى دراجة جميلة، ذات أبعاد فنية، وقد ملأت سلتها بالورود النضرة من أعمالها المبدعة الجمال.
المرأة مربية ومبدعة الجمال
ربما لا تجد قطرية الوقت الكافي لتصنع تحفها، إلا أنها لم تتوقف عن الأمر، بل ثابرت على ما تصنعه، وفي الوقت ذاته لم تتخلَّ عن واجباتها المنزلية: “المنزل، والأعمال المنزلية، والاهتمام بدراسة أطفالي، يأخذ جل وقتي، ولكن لا يوجد شيء يأتي بسهوله، أو عمل ينجز في العالم دون تعب، فكيف إذا أصبح شيئاً من شغفي، وبذلك العمل المضني أقضي على الصعوبات كلها التي تعترض طريقي في الحياة.
قطرية نموذج مثل كثير من النسوة في قامشلو، اللواتي سعين وراء شغفهن وأحلامهن، إلا أن قطرية استطاعت، أن تلوِّن عالمها الخاص بأفكارها الفريدة، وحبها لبيئتها أن تكون نظيفة، لقد كانت قطرية امرأة سباقة في إدخال فكرة عادة تدوير التالف، وربطها بالفنّ؛ لتعرض أعمالها الفريدة من نوعها على مستوى المنطقة، ففي الكثير من المعارض، والمهرجانات، التي اشتركت فيها، كانت ملهمة الجمال، والأناقة والابتكار من المهمل المتروك.
