الهروب بطولة والمقاومة حماقة ـ2ـ

مصطفى بالي_

يبدو أن الدرس الأوكراني سيتمخض عنه الكثير والكثير من الدروس والعِبر التي تنير البصائر، وتزيل الغبار عن الكثير من الحقائق واللثام عن مثلها من الوجوه، وتعري الكثير من الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، وكأن هذه الحرب جاءت لإسقاط أكاذيب النيوليبرالية واحدةً تلو الأخرى كأحجار الدومينو، تلك اللعبة التي لطالما استخدمتها الليبرالية لإسقاط الشعوب والدول والأوطان، بحجة نشر الديمقراطية، ديمقراطيتها هي وإن اقترنت بإبادة شعوب كاملة ومسحها من مسرح الحياة لا ديمقراطية الشعوب.

في العدد السابق تطرقنا لهذه الحرب من زاوية نمط التفكير الذي يحدد موقفنا من هذه الحرب وغيرها من الحروب، نمط التفكير الذي يدعو للهروب والاستسلام متلبساً بالتعقل والحكمة، في مواجهة نمط التفكير الذي يدعو للمقاومة مهما كانت التضحيات والآلام، نمطي التفكير هذان اللذان يحددان الفارق الجوهري بين نمط حياة الكلب الذي انفصل عن طبيعته، وقبل التدجين كأول حيوان خان جنسه مقابل الحصول على لقب (الوفي، الأمين وبعض فتات الطعام مقابل نباح مرهق وحراسة للصباح) من قبل داجنه الإنسان، وبين نمط حياة الذئب الذي رفض التدجين وما زال يتحمل كل المصاعب والمتاعب في غاباته لتأمين ما يسد جوعه، ولا يتنازل عن حريته مقابل فتات من طعام البشر، الكلب والذئب من سلالة واحدة (أبناء عمومة)، أحدهم يخدم الإنسان، والآخر يرفض العيش مع الإنسان، أحدهم يسميه الإنسان بالحيوان الوفي والآخر يحذره الإنسان في حله وترحاله، مع كل هذا عندما يتذمر إنسان ما من حياته يقول (يلعن الكلب وعيشته)، وعندما يصف نفسه بالشجاعة يقول (أنا ذيبك) يا للمفارقة.

هنا نعود للتأكيد بأننا لسنا معنيين بالتناغم مع الموقف والحجج الروسية لشن هذا الغزو ضد أوكرانيا، وكذلك لسنا معنيين بالحجج الأوكرانية لخوض هذه الحرب، فبالنتيجة هذا النظام الهائل والعملاق الذي يقود العالم نحو الهاوية الحتمية، ليس لديه أذن صاغية ليسمع أو يراهن على موقفنا، ذلك أن هذا النظام بمختلف مسمياته ومنذ قرون طويلة يقضم البشرية، يفترس الشعوب ويدمر البيئة ويرسم الخرائط ويغيّر الهندسات الاجتماعية، ووصل بجشعه وجبروته للفضاء الخارجي دون أن يتوقف للحظة واحدة ويمنح نفسه فرصة للتفكر فيما يفعل، إنه نظام مجبول بالجشع والجبروت وحب السيطرة والتملك، وغول يعتاش بالدم فقط لا غير.

ما يعنينا هنا هو التمييز بين نمط التفكير الذي يحدد سلوكياتنا في الحياة، وكذلك الكشف عن الزيف والخداع الذي يتلطى به البعض أفراداً وجماعات لخداع الناس، فبمتابعة بسيطة لما يصدر عن الأفراد والجماعات إزاء هذه الحرب يظهر جلياً واضحاً الضحالة والذل التي يتمرغ بها (الأمين/ الوفي)، وكذلك الكرامة التي يرفض الذئب أن يُفرط بها حتى لو كان في ذلك هلاكه.

في مقاومة كوباني، عندما سقطت المدن السورية والعراقية، مدينة تلو الأخرى كأحجار الدومينو سالفة الذكر، وعندما كانت داعش باقية وتتمدد، وعندما وقف (سيد وولي نعمة الكرد الجيدين) رجب طيب أردوغان أمام قطيعه وقال (سقطت أو على وشك السقوط) وعندما كان (الكرد الجيدون/ الأوفياء الأمناء) غلماناً لدى فصائل القتل الإجرام وتحضر نفسها خلف أسلاك الحدود، وعندما كان العالم مع كل هؤلاء، ينتظر من (YPG) بيان الانسحاب من كوباني أسوةً بكل المدن السابقة، صدر البيان مختصراً جداً فحواه (إننا هاهنا مقاتلون حتى آخر طلقة وآخر مقاتل ولن نغادرها أحياءً)، بينما الكثير من (الأمناء/ الأوفياء) كانوا يدعون لتسليم المدينة وعدم جدوى المقاومة.

حقيقة هؤلاء حتى الآن وحتى آماد طويلة سيبقون كذلك، بأنه لا جدوى للمقاومة، وأن العين لا تقاوم المخرز، وأن الحكمة هي مسايسة المغتصب، فمن المستحيل أن يقتنع المجن بأن الجوع مع الكرامة أشرف من الشبع مع الذل.