سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المكارثية العربية

أحمد ديبو (شاعر وكاتب سوري)_

لعل الفرق بين السينما والمسرح، يكون بما يلي، في السينما تستطيع أن تشاهد الماضي، وتنسج له حيزاً من الحنين، لأنه لا يخاطبك مباشرة، بل يخاطب ذاكرتك، أما المسرح فالمسألة مختلفة: الماضي حي أمامك، لا يخاطب الذاكرة بل يخاطب الحاضر، الماضي في الحاضر لا يثير المشاعر، بل يطرح الأسئلة حول المشاعر القديمة، قد يكون هذا الكلام طبيعياً، وهو كذلك، لأن الجمال الماضي هو غموضه وترجرجه في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، أما حين يعود الماضي إليك، فإنه يصير أشبه بالكابوس، أو يثير فيك إعجاباً غامضاً مصحوباً برفض الاندماج في لغته الميتة، لا أعرف لماذا اخترت افتتاحية لمقال سياسي بالتكلم عن السينما والمسرح؟!متخلياً عن رصانة القول السياسي وجديته، إذ لم يعد هناك مسرح منذ عقود، ولم تعد هناك سينما، فمكارثية الأنظمة العربية، حولتهما إلى أثر بعد عين، واستعاضت عنهما باللقيطة “الدراما التلفزيونية” خادمتهم المطيعة، فعملوا على دعمها بالسبل المتاحة كلها، ولكن سأعود إلى رصانة المقال السياسي لأقول: أعفي الصحفي السوري المستقل محمود سلامة من منصبه كمدير عام ورئيس تحرير لجريدة “الثورة” السورية، وهذا ليس بالأمر القليل، على ما كتب ميشيل كيلو في “قضايا النهار” فمحمود سلامة سمح بملامسة بعض المسائل، وفتح صفحات “الثورة” لحساب المختلف، ودافع عن مشروع الإصلاح الأسدي، حتى أصيب بالإحباط؛ لأنه وجد أن الإصلاح هو كلام كثير، وفعل يقترب من الصفر، عندما كان أمينا لسر تجربة الإدارة بالأهداف، إذ أعفي من منصبه ليكون رئيسا لمؤسسة الوحدة، وكونه شخصاً منفتحاً، فقد وجد فيه حزب البعث أنه يغرد خارج السرب” البعثي” وسرعان ما صار الغمز من كفاءته كرجل من خارج المهنة، والمهنة هي في الانغلاق، وسرعان ما نقل من موقعه إلى موقع آخر في رئاسة مجلس الوزراء، “وأنه كان مستقلاً أكثر من اللزوم” على ما قالت الشائعات.
هكذا هي المكارثية البعثية في سياستها القائمة على احتواء الآخرين، وإلا استبعادهم وتهميشهم، وهذه المكارثية لا ترغب في كل مستقل، والحال أن برنامج التغيير الموعود، الذي لم يكن قد بدأ بعد، أو ربما بدأ ضعيفاً، لم يتمكن من حماية أنصاره القلائل أصلاً، في قيادة البعث والسلطة، وقبل سلامة، فصل أنطون مقدسي من منصبه، وتعرّض النائب رياض سيف للتهديد، وتم التراجع عن وعود ديموقراطية بسيطة في الأحوال كلها.
ولو انتقلنا إلى مصر السيسي لنسأل عن يارا سلاّم الناشطة الحقوقية، التي تبلغ من العمر 28 سنة، وتعمل في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إذ كانت بدورها ضحية مكارثية نظام السيسي، ومحمد أبو زيد المعروف باسم “محمد شوكان”، الذي نُشرت أعماله ” بالتايم ” و”دي تسايت” وغيرها من المنافذ الإعلامية.
لقد أقام الرئيس السيسي، وحاشيته نظاماً شديد التعقيد، يقوم على الاعتقال التعسفي، والتعذيب أثناء الاحتجاز، والاستهانة بالحقوق المدنية والسياسية، وضيقه الشديد بالنقد العلني، ومسارعته لإسكاته وإخضاعه.
وفي السعودية أصدرت المكارثية السعودية الحكم بالسجن حكماً نهائياً على “مرتجى قريريص” الذي تلقبه منظمات حقوقية بـ”أصغر سجين رأي في المملكة”، وفق ما أعلن عنه حساب معتقلي الرأي في السعودية وناشطون، وكل ما فعله أنه تظاهر مع أترابه على الدراجات الهوائية في منطقة القطيف الشيعية شرق السعودية، ففي نهاية المظاهرة تحدّث مرتجى عبر مكبّر الصوت صارخاً بوجه العسس: الشعب يطالب باحترام حقوق الإنسان.
وأثناء المحاكمة ” الصورية”، لم تتأخر النيابة العامة بطلب حكم الإعدام بحق “قريريص”، بعد توجيه تهمة التظاهر، والإخلال بالوحدة الوطنية، والاعتداء على الدولة، يا لها من نيابة عامة، ويا لها من تهم تكال لطفل تلفظ ببضع كلمات ؟!!!، هل ننسى البحرين؟ وكيف تتعامل المكارثية البحرينية مع ثلثي الشعب المنتفض هناك؟ وأين ما جلنا في هذا العالم العربي، سنجد أن أنظمته السياسية قامت، وأُسّست على القمع، والسحل، والاعتقال، والفادح أن السجناء سيبقون في زنازينهم، ولسوف تتذكرهم بين حين وآخر بعض المنظمات الدولية، وبعض هيئات المجتمع المدني، كنوع من رفع عتب، لا أكثر ولا أقل، بينما كل يوم سيكون هناك جديد لدى محاكم التفتيش في “المكارثية العربية”، ما لم يقف المجتمع المدني في العالم كله، وقفة رجل واجد في الضغط على حكومات بلدانهم، لبذل قصارى الجهود المؤثرة بالفعل على هذه الأنظمة، التي لا عمل لها إلا الاستفراد بشعوبها تنكيلاً، ونهباً، وقتلاً، وإذلالاً، ويبدو هذا الأمر، وتحققه كحلم أبو لهب بالجنة، والمكارثية لا تقتصر على السلطة في أيضاً مكارثية “شعبية”، وحزبية، بل أن المكارثية، التي ظهرت عند الكثير من منتسبي المعارضة في الثورة السورية ، تستطيع أن تعادل مكارثية النظام، بل وفي أحايين كثيرة، ربما تفوقت عليها.
هامش وحيد:
المكارثية، هي ممارسة توجيه اتهامات بالتخريب، أو الخيانة دون دليل دامغ.
نسب المفهوم إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “الجمهوري جوزيف مكارثي” حيث ظهر هذا المصطلح عام 1950، حيث كان لديه فوبيا ضد تسلل الشيوعية إلى المؤسسات الأمريكية، وقام بسجن بعض زملائه الديمقراطيين من خلال فبركة تهم تبين فيما بعد أنها كاذبة، وتم استخدامه لإرهاب المثقفين، وقد كتب راي برادبري روايته الشهيرة “فهرنهايت” رداً على مكارثي في اضطهاده للمثقفين.