رامان آزاد_
أكثر ما يلفت الانتباه في مسألة التمويل الخارجيّ لمشاريعِ الاحتلالِ التركيّ في عفرين، إنَّ بعضَ مصادر التمويل هي جمعيات فلسطينيّة، مثل جمعية العيش بكرامة ــ عرب 48، والسؤالُ المطروح ماذا عن القضيةِ الفلسطينيّة؟ لماذا يدعم فلسطينيو الداخلِ والمعروفون باسم عرب 48 مشروعاً احتلاليّاً في بلدٍ عربيّ كان ملاذهم؟ ويتجاهلون معاناة أهلهم الفلسطينيين في الشتات المحتفظين بمفاتيح بيوتهم منذ 74 عاماً؟
انقلابٌ فلسطينيّ على العلاقةِ التاريخيّة
حازتِ القضيةُ الفلسطينيّة على تعاطفِ كلِّ شعوب المنطقةِ ولم تقتصر على العربِ، وكان الكرد تاريخيّاً من المتعاطفين مع الحقوقِ الفلسطينيّة، ويوم تشكّل جيش الإنقاذ عام 1948 من المتطوعين انضمَّ عشرات الكرد إليه، واستشهد العديد منهم من أجلِ فلسطين، في معركة كان دافعُهم فيها الوجدان والشعور بالمظلوميّة، كما شارك الكرد ضمن الجيوش النظاميّة في حروب 1967 و1973 و1982 وشاركوا في معركة قلعة الشقيف في لبنان.
وفي ثمانينات القرن الماضي كان مثقفو الكرد من قرّاءِ مجلتي “الحرية” و”الهدف” المختصتين بالشأنِ الفلسطينيّة، ولم تكن أعدادهما تخلو من موادٍ عن القضيةِ الكرديّةِ، رغم أنّ دوائر الرقابة كانت تمزق بعضِ المقالاتِ.
بعد العدوان التركيّ على عفرين واحتلالها، أشاد خالد مشعل الرئيس السابق لحركة “حماس” بالاحتلالِ التركيّ لعفرين، وقال: إنَّ “النصرَ في عفرين كان نموذجاً للإرادة التركيّة، وإن شاء الله سنسجلُ ملاحم بطوليّةً لنصرةِ أمتنا”، وأضاف: “اليوم نحن نسعد بفخامة الرئيس أردوغان، هذا الزعيم الذي رفع رأس تركيا عالياً، ورفع معها أمة الإسلام”. فأيّ أمةٍ يقصدُ مشعل؟! ويبدو أنّ القدسَ التي كانت على مدى عقود قضية الأمة، ما عادت كذلك، وبذلك أطاح مشعل بعقودٍ من العلاقةِ الطيبةِ والتعاطف الوجدانيّ، ليسجّل موقفَ الولاءِ لأردوغان!
الاستيطان الفلسطينيّ في عفرين
شهدت بعد الاحتلال التركيّ لعفرين موجات لقدوم المستوطنين المرحلين من مناطق سوريّة مختلفة وبخاصةٍ ريف دمشق، وقدمت معها أكثر من 600 عائلة فلسطينيّة من أهالي مخيم اليرموك، وأقيم لها مخيمين في تل بلوط والمحمديّة بناحية جنديرس، وتعاني هذه المخيمات من إهمالٍ كبيرٍ من جانبِ المنظمات الإغاثيّة حتى من قبل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.
تعيش في مخيّمات الشمال السوري، قرابة 1535 عائلة فلسطينية مهجّرة من مخيّمات اليرموك، خان الشيح، ومناطق جنوب دمشق، وحندرات ويتركّز معظمها في دير بلّوط وإعزاز، ورغم صدورِ مرسومٍ في 9/9/2021 خاصٍ بعودةِ اللاجئين الفلسطينيين إلى مخيمِ اليرموكِ دون قيدٍ أو شرطٍ، إلا أنّ أكثر العائلات التي كانت تقطن المخيم عازفةٌ عن العودة لأسبابٍ متعددةٍ.
يعيشُ اللاجئون الفلسطينيون في مخيم دير بلوط أوضاعاً مزرية وظروفاً معيشيّةً سيئةً في ظلّ تهميش “الأونروا” فضلاً عن الفصائل الفلسطينيّة والسلطات التركيّة كونها الجهة التي تفرضُ سيطرتها على المنطقة.
ووفقاً لموقع “بوابة اللاجئين الفلسطينيين”، يقطن مخيّم دير بلّوط للمهجرين، ما يُقارب 282 عائلة فلسطينية تم نقلهم من مخيّمات اليرموك وخان الشيح ومناطق جنوب دمشق، ويعاني سكان مخيّمي دير بلّوط والمحمديّة للمهجّرين، من أزمة مياه شرب منذ تأسيس المخيمين عام 2018. ولا يتمكن العديد من الأهالي من الحصول على أيّ كميّة من المياه خلال فترة التوزيع، في حين لا تحصل العائلة التي تظفر بحصّة على أكثر من 10 ليترات، وهي غير كافيّة لأسرة مكوّنة من أربعة أشخاص ليوم واحد، وبخاصةٍ في الصيف.
وقال مركز التوثيق المدنيّ للاجئين الفلسطينيين في الشمال السوري في 15/2/2020، إنَّ أعداد المستوطنين الفلسطينيين في الشمال السوريّ يبلغ نحو 7500 شخص تم جلبهم من مخيمات درعا وحمص وحلب واليرموك. وذكر موقع “قدس برس” في 14/2/2020 أن عدد الفلسطينيين في عفرين يبلغ 500 عائلة، وأما موقع “يرموك – نت” فقد ذكر في تقرير نشره في 27/4/2020 أن عدد الفلسطينيين في مخيمي (تل بلوط والمحمدية) يقدّر بنحو 300. وقد بوشر بإقامة مخيم الفلاح ــ 3 في منطقة عفرين بإشراف جمعية الفلاح الخيرية الفلسطينية.
الاستيطان الأكثر غرابة
يُفترضُ أن يتضامن فلسطينيو الداخل وعرب 48 مع أهلهم الفلسطينيين المشردّين في مخيمي تل بلوط والمحمديّة، ويقدموا لهم الدعمَ والمساعدة، إلا أنّ دعمهم يندرجُ في سياقِ خطة الاحتلال التركيّ في التغيير الديمغرافي والثقافيّ للمنطقةِ الكرديّة، ففي نهاية نيسان 2021 اُفتتح مسجدٌ ودارٌ للقرآن في قرية مشعلة بناحية شران، بتمويلٍ من أهالي فلسطين 48. كما موّلوا بناء مساجد في قرى تل طويل وإيكيدام وشيخورزة، وموّلوا بناءَ مجمع “بسمة الاستيطانيّ” في قرية شاديريه الإيزيديّة من تبرعات من عدة بلدات ومدن فلسطينية مثل (جلجولية وأم الفحم والطيرة وقلنسوة وميسر وجت المثلث)، الواقعة فيما يُسمّى المثلث الجنوبيّ.
استولت جمعية العيش بكرامة الخاصة بفلسطينيي 48، في أيار 2020، على أرضٍ في قرية تل طويل تعود لمواطن كرديّ من قرية عشونة لإقامة مسجد عليها بتمويلٍ جمعياتٍ إخوانيّةٍ قطريّةٍ، ثم استولت على الأراضي المحيطة بالعقار، لتوزيعها على المستوطنين من أجل زراعتها وإقامة مشاريع عليها، وتمكينهم من الاستقرار بالمنطقة. ويطرح التمويلُ الفلسطينيّ، أسئلة كثيرة وعلى درجة من الخطورة، فهل هو محاولةِ لتثبيتِ الوجودِ الفلسطينيّ في منطقة عفرين؟ ومن المستفيدُ من مشروعِ التوطين الفلسطينيّ في منطقةِ عفرين المحتلة؟
رغم أنَّ عدد الفلسطينيين في عفرين هو الأقل بالمقارنة مع المستوطنين القادمين من أرياف دمشق وحمص وحماه وإدلب، لكنه الأكثر غرابة، لكنهم ذاقوا مرارة الاستيطان الإسرائيليّ على أراضيهم، وهم اليوم يسهمون في التغيير الديمغرافيّ في عفرين، وستكون لذلك تداعيات في مستقبل العلاقة.
وتأتي مجمل عمليات الاستيطان والاستيلاء على الأراضي والممتلكات وكذلك إقامة المشاريع بما فيها المدارس والمساجد، في إطار خطة متكاملة للتغيير الديمغرافي وتثبيت واقع الاحتلال، بإجراءات ذات آثار بعيدة.
موقف فلسطينيّ يناقض جوهر قضيتهم
اتخذ الفلسطينيون مواقف تثير الغرابة، وتناقض جوهر قضيتهم العادلة، الأولى هي علاقة الولاء لأنقرة والثانية اصطفافهم إلى جانب المعارضة السوريّة وكلمة السر هي تنظيم “الإخوان المسلمين”.
تركيا أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل في 28/3/1949، أي بعد أقل من سنة واحدة من قيام إسرائيل في 15/5/1948، ولها علاقاتٌ رسميّةٌ مع إسرائيل على مستوى تبادل السفارات، ولم تنقطعِ العلاقاتُ بين الجانبين حتى اليوم، بل إنَّ التنسيقَ بينهما في أعلى المستوياتِ وبخاصةٍ بالجانب العسكريّ، ويوم الثلاثاء 18/1/2022 قال أردوغان “إنَّ الرئيسَ الاسرائيليّ “يتسحاك هرتسوغ” من الممكن أن يزورَ تركيا قريباً”. قبل أن تعلن تل أبيب عن الزيارة رسميّاً.
وفي سياق علاقتها مع إسرائيل عقدت معها اتفاق “الحزام المحيطيّ لعام 1958، الذي وقّعه ديفيد بن غوريون وعدنان مندريس، والتزمت تركيا موقف الحيادِ إزاء حروب العرب مع إسرائيل في 1967 و1973.
زار أردوغان واشنطن يوم الاستقلال الأمريكيّ في 4/7/2001، تلبيةً لدعوةِ تلقاها من الإدارة الأمريكيّة، والتقى باللوبي اليهوديّ، وبعد عودته بشهر أعلن عن تأسيسِ حزب العدالة والتنمية في 14/8/2001. وتمَّ تكريمه في 2004 بجائزة “الشجاعة” اليهوديّة، وزار قبر تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونيّة ووضعَ الزهور عليه عام ٢٠٠٥.
موقفان سجلهما أردوغان إعلاميّاً الأول انسحابه من مؤتمر دافوس في ٣٠/١/٢٠٠٩ بحضور شمعون بيريز، والتصريحات التصعيديّة بعد العدوانِ الإسرائيليّ على أسطولِ الحرية وسفينة مرمرة لكسرِ الحصار عن غزة في ٣١/٥/٢٠١٠، فيما لم تتأثر علاقات التبادل التجاريّ، وقد أراد أردوغان بذلك تحسين موقفه السياسيّ مع تل أبيب وواشنطن عبر الضغط الإعلاميّ، ولم يكن جاداً مطلقاً في قطع العلاقة.
ووقف فلسطينيون في صف المعارضة السوريّة رغم أنّ العديد من شخصياتها أشادوا بإسرائيل وبعضهم زارها فعلاً وأجرت معه وسائل الإعلام الإسرائيليّة لقاءات وبشّروا بالسلامِ مع إسرائيل التي كانت تُوصف حتى فترة قريبة بأنّها “كيانٌ غاصبٌ زُرِع في الأراضي العربيّة”، وأنّها تجميعٌ يهوديّ من الشتات لغايات استعماريّة. ومعلومٌ أنّ أيّ علاقة مع إسرائيل دون ضمان حق العودة وقيام الدولة الفلسطينيّة يعني طعناً بالحقِّ الفلسطينيّ التاريخيّ.