سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر شجاعة العقول -2ـ

د. محمد فتحي عبد العال (كاتب وباحث مصري)-

سنتوقف عند مسرحية (صلاح الدين الأيوبي ومملكة أورشليم) والتي عُرضت ضمن الحفلة السنوية لمدرسة رقي المعارف الثانوية بحديقة الأزبكية عام 1931 مع رواية (أصول الفن) حيث بدأت الحفلة بحسب المجلة المدرسية في تمام التاسعة بالنشيد الخاص بالمدرسة: “نحن أشبال الحمى والفداء للوطن” من تلحين “الأستاذ القدير والموسيقى البارع السيد مختار مُدرّس العلوم بالمدرسة والعضو الفني بمعهد الموسيقى الشرقي”. أجاد الطلبة أدوارهم ومنهم (عبد المنعم عفيفي) رئيس الفرقة والطالب عبد الكريم في دور صلاح الدين وحملت المجلة صور الطالب (باروخ يوسف مسعوده) الذي أدى دور فخر الدين في الرواية. إلى هنا الأمر رائع وجدير بالفخر ويستحق الإشادة لكن منه ندلف للجانب غير الرائع والمظلم لما يحتويه من عبث بحقائق التاريخ والقفز على ثوابته وحوادثه الخالدة.
تستند المسرحية في أحداثها لرواية (فرح انطون) التي حملت نفس الاسم، والتي كتبها عام 1914 ونشرت عام 1923 وتدور أحداثها عن الأميرة ماريا أخت أرنولد دى شاتيليون أمير الكرك والتي تدفعها الرغبة في الانتقام للتخفي في هيئة مملوك هدية للسلطان صلاح الدين، للانتقام منه لقتله أخيها وبقصر السلطان تدبر المكائد وينكشف أمرها لكن صلاح الدين يعفو عنها إلا أنها تعاود الكرة وتستمر في مؤامراتها لقتله فتارة تستميل القائد المملوك أياز لقتل السلطان مقابل الزواج منه، وتارةً أخرى تتفق مع مجد الدين ابن السلطان على الأمر ذاته وفي نهاية الرواية تحاول قتل السلطان بخنجرها، كما اشتملت الرواية على خط درامي آخر مثله تسلل الأمير برنار متخفياً في هيئة ناسك وأطلق على نفسه اسم “برنت” من أجل إفساد الهدنة، حيث راح يؤلب جنود السلطان على ملوك أوروبا ويوقع بين ملوك أوروبا وصلاح الدين،  ولا يتوقف العبث التاريخي بالمسرحية عند ذلك بل يمتد إلى التفسير التاريخي للأحداث فموقعة حطين مثلاً نتيجة لأسر واختطاف أخت السلطان!.
الحقيقة أن قصة صلاح الدين لم تُقدم ولو لمرة واحدة بشكلها الحقيقي منذ ظهورها للمرة الأولى على المسرح المصري بل والعربي أيضاً ولنحكي الحكاية من البداية.
كان الظهور الأول لشخصية صلاح الدين الأيوبي ضمن فرقة سليمان الحداد في مارس عام 1893 بدار الأوبرا الخديوية وكان عنوان المسرحية (السلطان صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد) تأليف الشيخ نجيب سليمان الحداد!! نعم عزيزي القارئ ابن صاحب الفرقة، وتدور أحداث المسرحية في فترة مرض ريتشارد قلب الأسد وحضور صلاح الدين متنكراً لعلاجه ليكتشف مؤامرة المركيز دي منسرات وسرقته لراية ريتشارد حتى يوقع بغريمه وليم حارس الراية، ويفوز بالأميرة جوليا أخت ريتشارد وحبيبة وليم، والتي تستعطف أخاها دون جدوى للإبقاء على حياة وليم المظلوم وهنا يتدخل صلاح الدين بنخوته العربية وكان لا زال متخفياً في ثوب الطبيب، ويأخذ وليم جزاءً لعلاجه ريتشارد، وتمر الأحداث ويكشف صلاح الدين لريتشارد أنه الطبيب الذي عالجه وأن وليم بريء والمركيز متآمر!.
 المسرحية نشرت عام 1929 تحت اسم (صلاح الدين الأيوبي) وعلى الرغم من التأثر الواضح في هذه المسرحية برواية الطلسم للكاتب الإنجليزي السير (والتر سكوت) والتي تدور في فلك نفس الأحداث تقريباً مع زيادة طفيفة أن صلاح الدين عالج ريتشارد بالطلسم والذي ظل وسيلة علاجية للمجانين ومرضى النزيف حتى أوقفته الكنيسة لكونه سحراً وكعادة الشرقيين في عدم نسبة الفضل لأصحابه وهي من الخصال التي تجمعنا جميعاً، وكأنها جين مستأسد في دمائنا فقد قطع الشيخ نجيب الطريق أمام فرضية الاقتباس في إهداء الرواية لخاله الشيخ إبراهيم اليازجي بقوله ،(هذه أول رواية تمثيلية وضعتها من عند نفسي غير مستند على التعريب فيها) .
ظل النص الذي كتبه الشيخ نجيب حداد هو المعتمد والسائد لدى الفِرق المسرحية في مصر وفي البلدان العربية أيضاً ففي العراق مثلاً تُحدثنا جريدة العراق في عددها 500 في 12 كانون الثاني لعام 1922 عن قيام “التلامذة اليهود” بتمثيل رواية (صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد) على مسرح الرويال سينما، كما شاركتها الشهرة رواية فرح أنطون: (صلاح الدين ومملكة أورشليم) والتي عرضت بقصر عابدين عام 1942 حيث قام بدور صلاح الدين جورج أبيض بك، وحسين رياض بدور الناسك برنت وعبد العزيز خليل بدور اياز.
لذلك عزيزي القارئ لو تقدمنا بالزمن سوياً لعام 1963 مع عرض فيلم الناصر صلاح الدين فلا تندهش من مصطلحات وأحداث في غير سياقها الزمني مثل: “سلطان العرب” و”أورشليم” ولقاء ريتشارد بصلاح الدين وعلاج صلاح الدين لريتشارد وفرجينيا جميلة الجميلات، وكل هذا العبث بالتاريخ الموجود بالفيلم  فالقصة منذ البداية ولدت مشوهة ومبتورة ولقد كان الكاتب الإنجليزي (السير والتر سكوت) الأب الروحي لهذا التشويه هو الأكثر وضوحاً  في اعترافه بتنحية الحقائق التاريخية جانباً حينما كتب في مقدمته لرواية الطلسم “ويُمكننا على الجُملة أن نقول إنَّ أكثر الحوادث المُساقة في القصة التالية هي من خلْق الخيال، وأنَّ الحقيقة، حيثما توجَد؛ لا أثرَ لها إلا في أشخاص الرواية”.
 المثير أنه حينما كتبت قصة صلاح الدين بمنظور عربي تاريخي صرف وجاد أضيف للشخصية ما ليس فيها وحملت ما ليست أهل له من أفكار ولخدمة أيدولوجيات لا تمت لواقع الشخصية بصلة كالقومية العربية والوحدة العربية والقضية الفلسطينية ويمكن الرجوع لكتابي تأملات بين العلم والدين والحضارة الجزء الأول للمزيد حول هذه الشخصية. نعم للإبداع مكان في العمل التاريخي وتطويعه لخدمة فكرة أو هدف لكن لا ينبغي بأي حال أن يتغول على الحقائق التاريخية ويسقطها.
إن للمسرح المدرسي قيمة كبيرة في تشكيل الوعي وبناء العقول إن استند على تاريخ حقيقي وقيم مجتمعية هادفة وبنّاءة ولنا في مسرحيات عبد الله النديم صاحب مجلة التنكيت والتبكيت، ومحمود مراد مدرس المسرح بالمدرسة الخديوية عام 1921 وزكي طليمات رائد المسرح وأول مفتش للتمثيل بوزارة المعارف عام 1936 القدوة الحسنة والمثل الصالح.