حرب الشعب الثوريّة ـ3ـ

دجوار أحمد آغا-

حربُ الشعبِ الثوريّة هي حربٌ شعبيّةٌ شاملةٌ تقومُ بها الشعوبُ بقيادة طليعتها الثوريّة من أجل الوصولِ إلى حريتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة أي بمعنى آخر الاستقلال الحقيقيّ. هي حربُ تعبئةٍ شعبيّةٍ من خلالِ التوعيةِ والتنظيمِ وحمايةِ مكتسباتِ الشعوبِ وتهدفُ إلى خلقِ حالةٍ من الثورةِ المستمرّةِ وصولاً إلى تحقيقِ الأهدافِ السامية التي تسعى إليها سائرُ الشعوبِ، ألا وهي العيشُ بحريّةٍ وكرامةٍ فوق ترابِ أوطانها والتمتعُ بخيراتِ وطنها والتمكّنِ من إدارة نفسها بنفسها مستفيدةً من ثرواتِ وطنها في تحسينِ معيشتها نحو الأفضلِ.

هناك بعض النماذجِ عن حرب الشعب الثوريّة حول العالم نذكر منها على سبيل المثالِ لا الحصر:

الحربُ الشعبيّة في الصين 

قام الشعبُ الصينيّ بهذه الحربِ ضدَّ الاحتلالِ اليابانيّ عام 1939، وهي من الحروبِ الشعبيّةِ المشهورةِ، وتشكّلُ جزءاً مهماً من النضال العالميّ ضدَّ الاستعمارِ والفاشيةِ النازيّةِ، وكانتِ الصينُ ساحةَ المعركةِ الرئيسيّة في الشرقِ إبانَ الحربِ العالميّة الثانية، وبدأتِ الحربُ عندما عمدت اليابان إلى نسفِ خط الحديد في مدينة شنيانج عام 1931 لتتهم القوات المقاومة الصينيّة بارتكاب الجريمة واتخذتها ذريعةً لغزو شمال الصين كله. وانتصرتِ الصين بعد ستة أعوام من الحرب، التي راح ضحيتها 85 مليوناً.

الحرب الشعبيّة الفيتنامية

حرب فيتنام الشعبيّة ضد اليابان وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكيّة 1955-1975 كانت حرباً شعبيّةً ثوريّةً قوامها الشريحةُ العاملةُ من الفلاحين في القرى والأريافِ، وعُرفت بتكتيكاتِ المقاومين في صناعةِ الأنفاقِ التي امتدّت على طول 200 كم، لتتكللَ بالانتصارِ وتوحيدِ فيتنام الجنوبيّة والشماليّة، وأهم الأدوارِ التي لعبها الشعبُ الفيتناميّ، كان النضالُ السياسيّ الداخليّ، عبر العصياناتِ والانتفاضاتِ والتظاهراتِ لتشكيلِ رأي عام عالميّ مناهضٍ ورافضٍ للاحتلالِ الأمريكيّ، بالإضافة إلى تقديمه الدعم العسكريّ واللوجستيّ للمقاومين، واحتضانه لثواره المقاومين. كذلك قام الشعبُ بحفرِ قريةٍ تحت كلِّ قرية على شكلِ شبكةِ أنفاقٍ تُوصلُ القرى بالبلداتِ والمدنِ الرئيسيّةِ، كما استخدموا الطبيعةَ من الجبالِ والغاباتِ والسهولِ لفتحِ ممراتٍ وبناءِ حصونٍ لصنعِ الكمائنِ وتعزيزِ القواعدِ العسكريّةِ للمقاومين ضد القواتِ الغازيةِ، وكان للمرأةِ الفيتناميّةِ دورٌ بارزٌ في هذه الحربِ الثوريّة، فقد تطوعت أكثر من 30 ألف امرأةٍ فيتناميّةٍ في وحداتِ المقاومةِ الثوريّة، واستطاعت أن تأسرَ الكثيرَ من الجنودِ الأمريكيّين.

الحربُ الشعبيّةُ الفلسطينيّة

الانتفاضةُ الفلسطينيّةُ الأولى عام 1987 والمعروفةُ بانتفاضةِ الحجارةِ، كانت عبارة عن حربٍ شعبيّةٍ ثوريّةٍ رفضاً للاحتلالِ وأصبحت أداةً للهجومِ والدفاعِ بالنسبةِ للمقاومين ضدَّ جيشِ الاحتلالِ الإسرائيليّ، وعُرف صغارها بأطفالِ الحجارةِ، لتتحوّلَ هذه الانتفاضةُ الى كفاحٍ مُسلّحٍ، وانتهت عام 1993 بعد الوصولِ إلى اتفاقيةٍ بين السلطةِ الفلسطينيّةِ وإسرائيل عُرفت باتفاقيةِ أوسلو.

الحربُ الشعبيّةُ الكردستانيّة

انتفاضة أهالي مدينة رانيا في باشور كردستان 1991 ضدّ النظام البعثيّ الديكتاتوريّ، أيضاً تُعتبر حرباً شعبيّةً ثوريّةً، وانتشرتِ الانتفاضةُ بسرعةٍ خلال ساعاتٍ وأيام لتصلَ إلى مختلفِ مناطق باشور كردستان. وانتفض الشعبُ في وجهِ عناصرِ الجيشِ البعثيّ وحاصروا ثكناتهم وقواعدهم ومراكزهم الأمنيّة والعسكريّة في المدينةِ وريفها وحملوا السلاحَ ليحرروا بها كاملَ منطقتهم، وأعطت هذه الانتفاضةُ القصيرةُ الأمدِ زخماً قوياً للرأي العامِ العالميّ حول الشعبِ الكرديّ وقضيته في العراق آنذاك.

أسس وركائز الحرب الشعبيّة

تستند حربُ الشعبِ الثوريّة إلى ركائزَ وأسسٍ مهمةٍ لكي تصلَ إلى مبتغاها في تحريرِ كاملِ ترابِ وطنها من العدوِ المحتلِ. لذا فهي تحتاجُ إلى نوعٍ مختلفٍ من الحروبِ فهي ليست حرباً كلاسيكيّةً بين جيشين نظاميين في مواجهةٍ مفتوحةٍ، بل تعتمدُ على ضربِ أهمّ ركائزِ وأسسِ العدوِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ، من خلالِ ضربِ البنيةِ التحتيّةِ للعدوِ وإحداثِ خللٍ في ميزانِ المواجهةِ، ما يُصعبُ على العدوِ التحرّكَ بأريحيّة في صراعه مع الشعبِ. ويحتاجُ الشعبُ إلى قوى استطلاعٍ بالدرجةِ الأولى، تكونُ منتشرةً في كلِّ مناطقِ الوطنِ. 

أهميّةُ الأعمالِ الفدائيّةِ

العمل الفدائيّ، عملٌ شجاعٌ يحتاجُ إلى عزمٍ وإرادةٍ صلبةٍ لدى من يقومُ به، وبدون ذلك لن يستطيعَ أيٌّ كان أن يقومَ بعملٍ فدائيّ، فروحُ التضحيةِ والإيثارِ من أهم أسسه. (العمليّةُ الفدائيّةُ التي نفّذتها آرين ميركان ضدَّ الدواعش نموذجٌ). إلى جانب ذلك يحتاجُ العملُ الفدائيّ إلى ركائزَ يستندُ إليها، ومنها ينطلقُ نحو تحريرِ بقيةِ مناطقِ الوطنِ المحتلِّ، ومن أهم هذه الركائزِ:

ــ القاعدة الأماميّة التي تُعتبر رئةَ الثورةِ والمنطقةَ الجغرافيّة التي تستطيعُ القواتُ المسلّحةُ واللوجستيّة أن تستندَ إليها في التعبئةِ والتجهيزِ للتحرّكِ والقتالِ.

ــ القاعدة الخلفيّة (قواعد الارتكاز)، والتي تُعتبر المنطقةَ الآمنةَ، ومن أهمِّ المناطقِ في الحربِ الشعبيّةِ، إذ تقيمُ فيها قواتُ الشعبِ الثوريّة قواعدَ لتدريبِ عناصرها عسكريّاً وسياسيّاً وفكريّاً بحيث يتمُّ بناءُ مقاتلٍ ثوريّ ومناضلٍ في سبيلِ وطنه وشعبه وفي سبيلِ الإنسانيّةِ جمعاء.

أهم تكتيكات حرب الشعب الثوريّة 

يقول الزعيم الثوريّ الصينيّ الكبير ماوتسي تونغ (1893/1976): “يجب أن تكونَ قواتُ الثوار وسط الشعبِ كالسمكةِ داخل الماء”

يمكننا أن نستنتجَ أهم تكتيكات ومبادئ حربِ الشعبِ الثوريّةِ عن طريق الأساليب التي اعتمدتها حربُ التحرير الشعبيّة الصينية، وهي على الشكل التالي:

ــ عنصرُ المفاجأةِ.

ــ القدرةُ على التحرّكِ بسرعةٍ وخفةٍ.

ــ عمليات الكر والفر، أي الهجومُ السريّعُ والانسحابُ السريّعُ.

ــ التركيزُ على الجبهةِ الخلفيّة للعدوِ واختيارُ الظروفِ والأماكن الملائمة للهجوم وعدم خوض مواجهة مباشرة وجهاً لوجه مع العدوِ.

ــ جعلُ العدوِ في حالةِ خوفٍ دائمٍ من وجودِ الفدائيين في كلِّ مكانٍ. 

حربُ الدعايةِ المُسلّحة (مرحلة التجهيز)

هي البدايةُ في أيّ حربٍ يخوضها شعبٌ أو مجتمعٌ ضدّ العدو، إذ لا بدَّ من التحضيرِ لهذه الحرب من خلالِ الدعايةِ لها وشرحِ ضرورةِ الكفاحِ المسلّحِ وتوعيةِ الشعبِ من خلال الانخراطِ بينهم والعملِ على رفعِ مستوى وعيهم وإدراكهم لما يحيط بهم. كذلك لا بدَّ من تنظيمِ وتجهيزِ قيادةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ للشعب تكون ذات سمعةٍ حسنةٍ ومقبولةٍ من الجماهيرِ الشعبيّة لكي تلتفَ حولها وتساندها وترفدها بالمتطوعين للمشاركةِ في الكفاحِ المسلّحِ، فما أُخِذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة.

الكفاحُ المسلحُ 

تعتمدُ حربُ الشعبِ الثوريّةِ بالدرجةِ الأولى على مساندةِ وتعاونِ الشعبِ وتعاطفه معها ومدّها بالمعلوماتِ التي تستفيدُ منها في تدميرِ قدرةِ العدوِ القتاليّةِ من خلال استنزافِ قواه. والكفاحُ المسلّحُ مهمٌ بالتأكيدِ في هذه الحرب، حيث الحاجةُ إلى معلوماتٍ موثّقةٍ وغزيرةٍ لكي يستطيع بموجبها التحرّك وضرب العدو. وهذه المعلوماتُ التي تستفيدُ منها القواتُ الثوريّةُ وتتمكن بموجبها من تجهيزِ الخططِ لضربِ العدو بشكلٍ مباغتٍ ومفاجئ، إلى جانب قدرتها على الانسحابِ السريعِ وبأقلِّ الخسائرِ. ولا يقتصرُ الدعمُ والمساندةُ الشعبيّةُ للثوار على مدّهم بالمعلوماتِ فقط، فالشعبُ يمدُّ ثواره بالمأكلِ وتأمينِ المأوى وحتى المواصلاتِ. 

حرب الكريلا (أي حرب الأنصار) 

هي شكلٌ من أشكالِ الحربِ الشعبيّة، يستخدمها الثوارُ في مواجهةِ جيوشِ الدولِ ذاتِ الإمكاناتِ الكبيرةِ، أي هي حربٌ غير متكافئةٍ بين طرفين، أحدهما يمثّلُ طليعةَ الشعبِ المتطلعِ للعيشِ بحريّةٍ وكرامةٍ على أرضه والآخر جيشُ العدوِ المحتلِّ لهذا الوطن أو جيشُ نظامٍ تابعٍ للعدوِ. وتعتمد هذه الحربُ بالدرجةِ الأولى على التدريبِ الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ، ومن الناحيةِ القتاليّة تمتازُ هذه الحربُ بالقدرةِ الفائقةِ على التكيّفِ مع الظروفِ المحيطة بها، وتهاجمُ قوات العدوِ من حيث لا يتوقعُ موقعةً بين صفوفه خسائرَ كبيرةً. أي هي عبارة عن حربِ الشعبِ الثوريّةِ ضد المحتل والنظام الفاسد والمستبد.

عادة تكونُ حربُ الكريلا عبارة عن حرب متحركة، تعتمد على وحدات قتاليّة صغيرة نسبياً وتقوم بعمليات متفرقة في أماكن مختلفة وبنفس الوقت حيث تُلحق بالعدو خسائر كبيرة وتشتت انتباهه.  

حرب حصار المواقع

عندما يتكون لدى الوحدات الشعبيّة المقاتلة خبرة قتاليّة مناسبة وكافية بعد خوضها لسلسلة من العمليات القتاليّة ضد العدو، تقوم هذه الوحدات بالتحضير لعمليات أوسع وأكبر بحيث تُحدث صدىً لدى قوات العدو وكذلك بين صفوف الشعب، حيث تقوم هذه الوحدات المقاتلة الثوريّة بالهجوم على بعضِ مواقعِ العدوِ التي يتحصّنُ فيها وينطلقُ منها في عملياتِ التمشيطِ وملاحقةِ الثوار بحيث يتم تدمير هذه المواقع أو إخراجها من الخدمة الفعلية. بطبيعة الحال لا تهدف هذه العمليات الاحتفاظ بالأرض إنما إجبار العدو على العيش في ترقبٍ وخوف دائم من هجوم مباغت على مواقعه. كذلك يمكن لهذه القوات أن تفرض طوق على بعض القواعد العسكريّة للعدو من خلال إحكام الحصار حولها والضغط عليها للاستسلام. 

أسس القيام بأي حرب تحرير شعبيّة

ــ الثقةُ والإيمانُ بالنصرِ ولا شيء سواه.

ــ الانضباطُ الأخلاقيّ والعسكريّ تجاه القيادةِ العسكريّةِ والسياسيّةِ.

ــ التجهّزُ للحربِ بالأسلحةِ، والتي تكونُ عبارة عن أسلحةٍ خفيفةٍ كالرشاشِ والمسدسِ والقنابلِ اليدويّةِ والألغامِ.

ــ تأمين المؤونة اللازمةِ لهذه الحربِ وتجهيزُ أماكن تخزينها.

تعتمدُ الحربُ الشعبيّةُ الثوريّةُ في مسألةِ التكتيكِ والتعبئةِ على ستِ نقاطٍ أساسيّةٍ ألا وهي:

ــ الحيلةُ أو الخدعةُ، فالحربُ خدعةٌ، ولا بدَّ للمقاتلين الثوريّين أن يخدعوا العدو بحيث يتوهمُ العدو بأنَّ الهجومَ عليه سيكون من المنطقة أ على سبيلِ المثال، لكنّ الثوارَ يهجمون عليه من المنطقةِ ب.

ــ المبادرةُ، يجب أن تكونَ بيد الوحدات الشعبيّة بحيث تفرض على العدو زمان ومكان القتال والاشتباك.

ــ السرعةُ في تنفيذِ العملياتِ القتاليّةِ وعدم تركِ المجالِ للعدوِ ليصحوَ من هولِ المفاجأة وأن يبقى في حالةِ الصدمةِ.

ــ السريّة التامة وعدمُ التحدثِ لأيّ كان عن مكانِ وموعدِ تنفيذِ العملياتِ القتاليّةِ ضد العدو، فقط الوحدةُ المكلفةُ بالعملِ القتاليّ تكونُ على علمٍ ولا أحدَ آخر سواها.

ــ الضغطُ على العدوِ وعدمُ إعطائه فرصةً لتنظيمِ صفوفه (لينتقلَ للهجومِ) أو لإراحةِ جنوده، ويقول بهذا الصدد القائد الصينيّ الكبير ماوتسي تونغ: “.. انسحبوا إذا تقدم وأزعجوه إذا أقام وهاجموه حتى يتعبَ وتابعوه إذا انسحبَ”.

ــ الاستطلاعُ الدقيق قبل العملية مهم جداً. يجب معرفة كل ما يتعلق بالعملية الهجومية لأنها تعتبر صمام الأمان وبدون توفرها لا يمكن القيام بأي عملية مسلحة.  

الاستراتيجية

تتبنى حربُ الشعبِ الثوريّةِ وقواتها المسلحةُ استراتيجيةَ حربِ الأنصارِ التي تستندُ إلى جملةٍ من المبادئ يمكنُ أن نُلخصها على الشكل التالي:

ــ رفضُ المعاركِ الطويلةِ، وتبنّي الحربِ الطويلة في الوقتِ ذاته، وما دامتِ الحربُ طويلةً، ستكونُ خسائرُ العدوِ بازديادٍ وتصاعدٍ.

ــ عدمُ الاشتباكِ مع العدوِ في جبهاتٍ محدودةٍ ومعنيةٍ ورفضُ الدفاعِ الثابتِ والاعتمادُ على الحركةِ والمناورةِ.

ــ يجب ألا تكونَ القيادةُ مركزيّةً مطلقةً، بل لا بد من إفساحِ المجال للقادة الميدانيين، أي أن تكونَ لا مركزيّةً في القراراتِ والعملياتِ التي تجري في مناطقَ مختلفةٍ من الوطنِ.

ــ لا بدَّ من الالتزامِ بضوابطِ وقواعدِ هذه الحربِ، ويسببُ عدمُ الالتزامِ بها بفوضىً يمكن أن تؤديَ في نهاية المطافِ إلى خسارةِ الحربِ. فالانضباط من أهم المبادئ الاستراتيجيّة لحربِ الشعبِ الثوريّةِ.

يمكننا القول إنّ حربَ الشعبِ الثوريّةِ في مضمونها وجوهرها هي حربٌ شعبيّةٌ طويلةُ المدى تهدفُ إلى استنزافِ قوى العدو وإجباره على التخلّي عن الخيار العسكريّ للوصول إلى المفاوضات والحوار وحل القضايا الشعبيّة وفق مبادئ الديمقراطيّةِ والإنسانيّةِ.