عبد الباري أحمه ينحت الزمن على جدران المنفى ـ2ـ

 آراس بيراني-

وبلغة مكثفة أو جمل سريعة مكتملة المعنى، تقوم على قراءة الواقع قراءة ناقدة بكلمات محسوبة.. يورد لنا سيرة ذاتية لمدن قديمة، تجددت بمفردات الحرب والغزو، يحاول كشف سر الضوء في زيت الزيتون وفي نسغ أشجار عفرين، ويمضي في جداريته الشاهقة نحو تخوم “واشو كاني” كاشفاً سر عذوبة مائها، هناك حيث لكل أم سيرة ذاتية وكل أم ينبوع، وتترافد تلك الجداول لنجد أن الأمهات قويات، يمضغن الموت كما يمضغن نسغ شجيرات قزوان، ونجد في المنحدر ساسة أقزام يلهون بالخطابات الخاوية، في صرخة مريرة يصرخ الشاعر ليكون النص صرخة وليكون الإنسان تاريخاً للصراخ، يصعد جبلاً لن ينجيه من الغرق.

وفي التزامه الموضوعي يسرد الشاعر فئة ثانية، فئة متوحشة من العصاة والزناة والبغاة، يتحدث بلغة شاعرية عن ذئاب تلتحف سماء الآلهة.. أقزام ينهشون مؤخرات البغايا، ولا ينتظرهم شيء في النهاية سوى الفاجعة، حيث يداعب الكردي أحلامه، يسرد أناشيد الحياة في دواوين الموتى والحياة قابلِة تؤجل مواعيد المخاض.

الكردي جسده مرهون للقوة، منذور للهزيمة، فالغول الرأسمالي يتخذ من أرضه طاولة قمار دولية، والكردي بضاعة للفوز بالفردوس، فمن يقتله له الفردوس، فقد سلم الرب شراذمة الآفاق مفاتيح جناته، ولا يغفل النص عن ذكر المفردة الأكثر إيلاماً في التاريخ الكردي؛ ألا وهي الغدر، فدوماً هناك بنادق تلهث خلف الشهقات وبنادق تحت المعاطف والعباءات، وكلاب مسعورة تركع لـ”هبل” معاصر، كلاب تمتد قطعانهم من “جارمو” إلى “سري كانيه” يشحذون أنيابهم بسيوف الغل والرغبات الباردة. إزاء الحجل الخائف مرتعد الأوصال، فكأنما جناحاه من مطاط، فيطلب منه صوت الشاعر أن يخرج من قمقمه قبل أن ينهب الغزاة نعل “هورو” في الشمال الجميل.

تحت ظلال جدرانه نجد تلك الجغرافية اللعينة التي قسمت ووأدت “تل حلف” و”واشو كاني” فاحترقت من جديد الحدود وبيادر الحنطة وطار الحجل بوجل نحو خيام النزوح لتكون عواصم للغبار والمرض والعويل. هناك حيث تموت الأقنعة، كما تموت البهجة في صباحات شرمولا بكل وقار ومجانينها يمضون في موكب جليل نحو الحكمة الأزلية.. “هرول أيها المجنون، فلا جبل يؤويك ولا مهرب من الطوفان”.

عموماً ثمة خيوط اعتمدت التوصيف والدلالة معاً، حيث موضوعات كثيرة طرحت دفعة واحدة لتعلن اكتمال المعنى الدلالي بكليته بحسب (جيرار جينيت)، فمن جهة انشغل الشاعر بالهم الوطني انشغالاً كبيراً، فالحرب وما نجم عنها من موت ودمار بنيوي واقعي، وتشريد للأهل، وتمزق بغيض بين أبناء الشعب، كل هذه المضامين أقضّت مضاجع الشاعر، فانعكست في تجربته الشعرية، فأخذ يتفهم الواقع الكسيح، وبات يدرك الرسالة الفكرية والأخلاقية والتأثيرية التي يحملها تجاه وطنه، لذا نجده يسعى إلى المتأمل في تجربة الشاعر الإنسانية ويدرك أنه يمزج في شعره البعد العاطفي، الذي ينساق به إلى جملة من الخيوط الشعورية والنفسية المتشابكة، نحو مزاج من المشاعر والأحاسيس المختلفة؛ الأمر الذي أكسب قصائد هذا البعد قدراً من التنوع والغنى.

 نابضة بالحياة والحيوية، إنها مبنية على مستويين: حقيقية ومجازية، تذوب بينهما الفواصل والحدود، للتعبير عن البعد العاطفي الوجداني الإنساني مجدداً، فأصالة التجربة الإبداعية لدى الشاعر أكسبت شعره الرِّقة، فهو قادر على أن يبعث في المفردة المنتقاة نبضاً متجدداً، وجوّاً ثرياً بالإيحاءات والدلالات الغنية.

فالناظر المدقق في قصائده يجدها تمتاز بالصدق، والطابع الرومانسي الحالم، والشفافية، حيث الرِّقة والعذوبة، والغنى بالمعاني العميقة، والصور الشعرية المشرقة والمكثفة بأضوائها الساحرة…