سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

يرحلُ سعدي المالح وتبقى أعمالُهُ مُرفرفةً فوقَ أجنحةِ الحياةِ

صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)_

تنامى فوقَ هامةِ الأدبِ العراقيِّ سعدي المالح بتجلِّياتِهِ المُنبعثِةِ مِنْ جُذورِ العراقِ القديمِ، هذهِ الجُذورُ المُوغلةُ في أعماقِ الحضارةِ الشَّرقيَّةِ التَّليدةِ، قامةٌ أدبيَّةٌ مشبّعةٌ بأبهى كُنوزِ حَضارةِ بلادِ الرَّافدَينِ، غاصَ عميقاً في حضارةِ سومر وأكّاد وبابل وكلدو آشور السُّريان، واطَّلعَ على ما خلَّفتْهُ هذهِ الحضارةُ في أوجِ شُموخِها وعطائِها، مُمْعِناً في كلِّ ما وقعَتْ عليه عيناهُ، وتشرَّبَ مِنْ شريعةِ حمورابي وثقافةِ وحضارةِ العراقِ العريقةِ، فقد ترعرعَ بينَ جذورِ حضارةٍ مُضمّخةٍ بالثّيرانِ المجنّحةِ نحو آفاقِ المَعرفةِ بكلِّ مُنجزاتِها الفكريّة وفضاءاتِها الأسطوريّةِ الفريدةِ، حيثُ شاهدَ حدائقَ بابلَ المعَلَّقةَ تزهو عالياً كإحدى عجائبِ الدُّنيا فوقَ أرضِ الحضاراتِ، وعلى مقربةٍ منها وقفَ جلجامشُ بكلِّ عُنفوانِهِ وجبروتِهِ وشُموخِهِ باحثاً عَنْ عُشبةِ الخُلودِ، هذهِ العُشبةُ المستنبتةُ مِنْ الآفاقِ الأسطوريَّةِ، وشَمَخَتْ بكلِّ عنفوانِها فوقَ هِلالاتِ قُبّةِ الرُّوحِ. استقى هذا الكاتبُ الطَّموحُ حرفَهُ مِنْ وحي استفحالِ لهيبِ الحُروبِ، وتفاقُمات اشتعالِ جُنونِ هذا الزَّمانِ، المستطيرِ فوقَ وجنةِ العِراقِ مِثلَ هديرِ الطُّوفانِ! الأديب الرّاحل د. سعدي المالح، قامةٌ أدبيّةٌ شامخةٌ شموخَ حضارةٍ شاهقةٍ في تجلِّياتها الرَّائدةِ في العطاءِ، تشرَّبَ مِنْ أصفى مَنابعِ الآدابِ، حَملَ طفولتهَ، في رِحابِ ذاكرتِهِ وخيالِهِ السيَّالِ وجسَّدَ محطّاتِ عُمرِهِ فوقَ أجنحتِهِ أينما حلَّ ورحلَ، وتوَّجَ مسقطَ رأسِهِ في انبعاثِ فضاءَاتِ كُتبِهِ. فقد كتبَ بكلِّ شغفٍ “حكايات مِنْ عنكاوا”، مُستلهِماً هذهِ القصصَ مِنْ بيئتِهِ الّتي ترعرعَ فيها، فكانَ مُخلصاً لها، مِنْ خِلالِ تسليطِ رؤاهُ المشحونةِ بذاكرةٍ مُعبّقةٍ بالحنينِ إلى عنكاوا، كتبَ قصصَهُ بتقنياتٍ سَرديّةٍ عاليةٍ، مُجسِّداً المكانَ والزَّمانَ بحميميّةٍ دافئةٍ، حيثُ نراهُ في حالةِ انصهارٍ تامٍ في جغرافيّةِ المَكانِ، فارشاً حكاياتِهِ عِنْ بلدتِهِ بطريقةٍ طازجةٍ، كأنَّهُ يُصوِّرُ لنا فيلماً عَنْ سيرةِ المَكانِ!
حلَّقَ المالحُ عالياً، عابراً البحارَ والمُحيطاتِ والقارَّاتِ، وكتبَ قِصصاً مِنْ خِلالِ رحلتِهِ الفسيحةِ في مُنعرجاتِ غربَتِهِ، واختارَ مجموعةَ قِصصٍ مُستوحاةٍ مِنْ مَحطّاتِ ترحالِهِ وأصدرَها تحتَ عنوان “مُدُن وحقائب”، متوقِّفاً عندَ الذَّاتِ الهائمةِ بالسَّفرِ والتِّرحالِ، باحثاً عمَّا يَموجُ في خيالِهِ مِنْ طُموحاتٍ، حافراً بإزميلِهِ أوجاعَ الغربةِ عَبرَ حَرفٍ جَامحٍ، مُجسِّداً بشغفٍ عميقٍ أصفى تجلِّياتِ الحَنينِ، راصداً حضاراتِ المَدائنِ، الّتي حَلَّ فيها، ومُسترجِعاً في مخيلته حضارةَ العراقِ القديمِ، الَّتي ظلَّتْ تتلألأُ في كينونَتِهِ، مُقلِّباً صفحاتِ تاريخِ حضارتِهِ الآفلةِ، كَمْ مِنَ الدُّموعِ سقطت على وجنةِ الرُّوحِ. استقبلتْهُ بوَّاباتُ المطاراتِ مِنْ أبوابِها العريضةِ، ترافقُهُ حقائبُهُ العاجَّةُ بالكتبِ، مُحلِّقاً عالياً، عابراً أعماقَ السَّماءَ، بَحثاً عَنْ أبهى أريجِ الأدبِ، فحطَّ بِهِ الرّحالُ في موسكو، ليوسمَ جبينَهَ بأرقى الآدابِ العالميّةِ، ناهلاً مِنْ معهدِ غوركي للآداب، مُحلِّلاً وباحثاً حصيفاً في فضاءَاتِها، إلى أنْ حصلَ على ماجستير في الإبداع الأدبي، وراحَ يغوصُ في أعماقِ الإبداعِ، مُستكمِلاً طموحَهُ في فُقهِ اللّغةِ والأدبِ العربي، كي يتوّجَ دراساتِهِ العالية في مَعهدِ الاستشراقِ في موسكو، برسالةِ الدّكتوراه في “الأدب العراقي المعاصر في المنفى”. محقِّقاً أقصى ما كان يطمحُ إليهِ مِنْ آمالٍ في رحابِ ما حقَّقَهُ المبدعونَ والمبدعاتُ العراقيونَ والعراقياتُ في دُنيا الاغترابِ!
الرِّوائي والقاصُّ المبدع الدَّكتور سعدي المالح، مُبدعٌ متجذّرٌ بالحضارةِ العراقيّةِ الممتدّةِ على مدى قرونٍ مِنَ الزَّمانِ. وُلِدَ في بيئةٍ متعانقةٍ مَعَ شُموخِ الحرفِ، وترعرعَ في أجواءَ تدفَعُهُ أنْ يحملَ فوقَ أجنحتِهِ طُموحاتٍ خلَّاقةً، ويسعى جاهداً أن يكونَ مُبدعاً رهيفاً شاهقاً، وشغوفاً بالأدبِ والبحوثِ واللُّغاتِ وبكلِّ صُنوف الإبداعِ، فقد توغَّلَ عميقاً في فضاءَاتِ البحثِ والتَّمحيصِ، قراءَةً وتحليلاً إلى أنْ وصلَ إلى مروجِ الإبداعِ الرَّصينِ، وكتبَ حرفاً باهراً مُندلِقاً مِنْ خيالٍ صافٍ لمّاحٍ وجامحٍ نحوَ مرامي الآدابِ الشَّامخةِ، بما يليقُ بشموخِ الحَضارةِ الَّتي انبعثَ مِنها عبرَ الأجيالِ المُتعاقبةِ على امتدادِ عَراقةِ العراقِ!
أصدرَ روايتَه الأولى “في انتظار فرج الله القهّار”، عَنْ دار الفارابي 2006، مُجسِّداً الكثيرَ مِنَ الرُّموزِ والإشاراتِ الدِّينيةِ والثَّقافيّةِ المتنوِّعةِ، مُتطرِّقاً إلى فضاءَاتٍ حضاريّةٍ وأسطوريّةٍ تتعلّقُ بالعراقِ الزَّاخرِ بالميثولوجيا، كما جسَّدَ في متونِها الواقعَ المُعاصرَ بكلِّ وقائعِهِ وتطلُّعاتِهِ، مُركِّزاً على ضَرورةِ التَّوازنِ والتَّضامنِ والتَّعاونِ مَعَ كافّةِ المَشاربِ الثّقافيّةِ الّتي سادَتْ في المنطقةِ وقَدْ وظَّفَ هذهِ الرُّؤية مِنْ خِلالِ انشغالِهِ وشغَفِهِ بالتَّنوُّعِ والاختلافِ وخلقِ توليفةٍ بينَ هذهِ التَّنوُّعاتِ الثّقافيّةِ، لأنّها عاملُ غنى للحياةِ. وبنى فضاءاتِها ضمنَ سياقٍ مُتعانقٍ مَعَ فضاءِ النَّصِّ المفتوحِ، مُستوحياً فصولَ روايتِهِ، مِنْ استذكارِ أحداثٍ أليمةٍ تعرَّضَتْ لها مجموعاتٌ عرقيّةٌ ودينيّةٌ في سَماءِ العراقِ خلال فتراتٍ مُتعاقبةٍ في أرضِ الرَّافدَين، وصاغَ أحداثَ روايتِهِ بجرأةٍ عاليةٍ حولَ المجازرِ، الَّتي تعرَّض لها الآشوريون، كما تعرَّضَ لها الأكرادُ والشِّيعةُ لهذهِ الكوارثِ المريرةِ، ولأوِّلِ مرَّةٍ يتطرَّقُ روائي عراقي أو عربي لهذه الأحداثِ، الّتي طمَسَها الواقع تحتَ عباءَتِهِ السَّميكةِ. يسردُ أحداث الرِّوايةِ في زمنٍ غيرِ مُعيَّنٍ، وينتقلُ مِنْ زَمنٍ إلى آخرَ برشاقةٍ سرديَّة رهيفةٍ، مُنطلقاً مِنَ العامِ ألفين ثمَّ يغوصُ في أعماقِ الماضي، على مدى قرونٍ من الزَّمانِ، مُستعيداً أحداثَ العراقِ القديمِ وأساطيرِهِ المتنوِّعةِ، والعديدَ مِنَ الحكاياتِ الدِّينيةِ، بلُغةٍ شاعريَّةٍ مشحونةٍ بصُورٍ معبِّرةٍ خيرَ تعبيرٍ.
ثمَّ أصدرَ روايةَ “عَمكا”، عن منشورات ضفاف، بيروت 2013، تتمحورُ أحداثُ الرِّوايةِ حولَ مدينةِ عنكاوا والقرى المجاورةِ لها، بأسلوبٍ سرديٍّ بديعٍ، مُجسِّداً تاريخَ المكانِ بطريقةٍ مشوّقةٍ، مُتوغِّلاً في تاريخِ المدينةِ وتاريخِ البلادِ على مدى القرونِ الغابرةِ، مُستوحياً مِنْ تاريخِ المدينةِ فصولاً في غايةِ التَّشويقِ والحنينِ إلى الماضي الموغلِ في القِدَمِ، وكأنَّهُ يستعيدُ الماضي ويريدُ أنْ يُصبحَ الحاضرُ أحسنَ وأجملَ، مُركِّزاً في بنائِهِ الفنّي على أدبِ المَكانِ وسيرةِ المكانِ بتجلِّياتٍ انسيابيّةٍ مُتدفِّقةٍ، تحتفي الرِّوايةُ بالمَكانِ احتفاءً شَفيفاً هذا المَكانُ المُتولدُ مِنْ فضاءَاتِ الأسطورةِ المُعشِّشَةِ في عوالمِ سعدي المالح، ومِنَ المَوروثِ المُحتَبِكِ مَعَ الكثيرِ مِنَ التَّجلَّياتِ المُرتبطةِ بالدِّينِ، راصداً قلمَهُ تاريخِ البلدةِ بكلِّ ما فيها مِنْ مِساحةٍ جغرافيَّةٍ مفتوحةٍ على إرثٍ حضاريٍّ تَعودُ جذورُهُ لمئاتِ السِّنينَ، تاركاً خيالَهُ ينسابُ على إيقاعٍ حُلُمٍ مفتوحٍ على بوَّاباتِ الحَنينِ، وتبدو الرِّوايةُ كأنَّها رحلةٌ فسيحةٌ في تاريخِ هذهِ الرُّقعةِ الجغرافيّةِ المُمْتدَّةِ فوقَ تُرابِ بلادِ ما بينَ النّهرينِ “ميزوبوتاميا”، والرِّوايةُ أشبَهُ ما تكونُ عرضاً لتاريخِ هذهِ المِنطقةِ بأساطيرِها ومعتقداتِها الدِّينيّةِ، وحِرَفِها وخُرافاتِها ولُغاتِها الَّتي انبعثَتْ مِنها ملاحمُ خالدةٌ على مدى تاريخِها الطَّويلِ.
درسَ دبلوم لغة فرنسية لمدّةِ سنة في كليّةِ فانييه في مونتريـال، ودبلوم لغة انكليزيّة من كلِّية بلاتون بكندا. كان شغوفاً باللُّغاتِ والأدبِ العالمي وباحثاً أكاديميَّاً كبيراً في اللِّسانيَّاتِ والأدبِ. ترجمَ خلالَ مسيرتِهِ الأدبيّةِ عدداً مِنَ الأعمالِ الكلاسيكيّةِ عَنِ الرُّوسيّةِ، وكتبَ في الصَّحافةِ العِراقيّةِ والعَربيّةِ والغربيّةِ أيضاً.
بعدَ رحلةٍ طويلةٍ في مَجالِ الإبداعِ الأدبيِّ، عملَ مستشاراً إعلاميَّاً في أبو ظبي، وأستاذاً للأدبِ المقارنِ في جامعةِ صلاح الدِّين، ورئيس قسم اللُّغةِ الإنكليزيّةِ في كلِّيةِ اللُّغاتِ، ثمَّ عُيِّنَ عام2007 مُديراً عامَّاً لمديريّةِ الثَّقافةِ والفنونِ السّريانيّةِ في وزارةِ الثّقافةِ والشّبابِ في حكومةِ إقليم كردستان. وقامَ بإعدادِ الكثيرِ مِنَ النَّدواتِ والأماسي والأيَامِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ والمعارضِ الفنّيّةِ خلالَ ترؤسِهِ مدير عام لمديريّةِ الثَّقافةِ والفنونِ السّريانيِّة، وأسَّسَ مكتبةً سريانيّةً ضمَّت آلافَ الكتبِ بالسّريانيّةِ والعربيَّةِ والكرديَّةِ والإنكليزيّةِ وسعى إلى تأسيسِ مَتحفِ التُّراثِ السِّرياني في عنكاوا، مًركِّزاً على التَّواصلِ الثَّقافي والفِكري مَعَ الحضاراتِ والثَّقافاتِ والقوميَّاتِ، مُدافعاً عَنْ حقِّ شعبِهِ الأصيلِ في العراقِ والإقليمِ، وفي بلادِ الشَّام، مُتواصِلاً مَعَ شريحةٍ واسعةٍ مِنَ الكتَّابِ والشُّعراءِ والنُّقَّادِ والمفكِّرينَ والفنَّانينَ والمُبدعينَ مِنْ شتّى الاختصاصات.
كانَ الأديبُ الرَّاحلُ سعدي المالج دَمِثَ الأخلاقِ، عميقَ الرُّؤيةِ، متفتِّحَ الذِّهنِ، طَموحاً في آفاقِ رؤاه. تعاوَنَ مَعَ الأطرافِ، الّتي كانَتْ تَنشُدُ الحداثةَ وتسعى إلى تحقيقِ آفاقِ التَّنويرِ والتَّجديدِ، فقَدْ كانَ بمثابةِ مؤسَّسةٍ ثقافيّةٍ بمفردِهِ، إضافةً إلى تعاونِهِ العَميقِ مَعَ المُبدعينَ والمُبدعاتِ مِنْ الأطيافِ والأجناسِ والأقوامِ كافة، فقَدْ كانَ ديدَنُهُ نشْرَ ثقافةِ العَطاءِ الخلَّاقِ، ورفْعَ شأنِ الأوطانِ نحوَ الأمثلِ على المُستوياتِ. وقدْ كتَبَ عَنْ أدبِهِ الكثيرُ مِنَ النُّقادِ والكتّابِ والباحثينَ لِما تحلَّى بِهِ مِنْ رؤيةٍ عَميقةٍ في بناءِ القصّةِ والرِّوايةِ بإبداعٍ خلّاقٍ.
عاشَ طوالَ عمرِهِ مُخلصاً لمسقطِ رأسِهِ عنكاوا. جالَ في بلادِ اللهِ الواسعةِ، ثمَّ جرَّهُ الحنينُ إلى عنكاوا، ليقضي بقيَّةَ عُمرِهِ، إلى أنْ وافتْهُ المنيّةُ بتاريخ 30/5/2014 ووُري الثَّرى في هذهِ الأرضِ المباركةِ!
وهكذا يرحلُ المبدعُ وتبقى أعمالُهُ مُرفرِفةً فوقَ أجنحةِ الحياةِ!