سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

(ورقة)

أحمد فرج الخليفة/ مصر_

أعلم يقيناً أنها صارت ورقة دائمة الخضرة في شجرة أخرى غير شجرتي، وأعلم أن هناك للعصافير زقزقات رنانة، وأغاريد حلوة، وأعرف أن تلك الحديقة ليست هي المثمرة الوحيدة فيها، لكنها الأحلى ثمراً، وأعلم جيداً أن راعي الحديقة يحرص دائماً على ريها والاهتمام بها، ويولي اهتماماً خاصة بهذي الشجرة، حتى أنها تطلق نداءً سُكرياً كلما غاب، فتوصل الرياح ذاك الأريج فيترك ما في يده متخطياً النهيرات والقنيات، غير آبهٍ ببعض الأشواك المختبئة في الحشائش كي يمنح ورقة الشجرة ابتسامته، وبعض الماء، ويمسح عنها غبار الحياة.
يسمع أنينها المكتوم حين يرحل حاملاً فأسه، وشيئاً من رائحتها، لكنه لا يقوى على المكوث خوف تلف باقي الحديقة.
لكني لا أعلم لماذا أشعر دائماً أنها ترسل لي كل مساء أريجاً لا يشبه رائحة ثمارها، لكني اعتدت عليه، ليس مجرد رائحة لثمرة عشقتها يوماً فهممت أن أقطفها، لكنني قضمتها قبل قطفها، فهربت بذرة، اختبأت مني في الأرض، فإذا هي نبتة تحمل ورقة، اقتلعها طائر ليبنى عشه، لكنها سقطت منه في نهر، حملها إلى أبعد مما رأت، لتجد نفسها في حديقة الراعي، ودون أن تدري وجدت نفسها ورقة في شجرة، ولم تصبح شجرة.
كيف تأتيني كل مساء في صورة جنة وارفة الظلال لا ورقة؟ تخبرني كل مرة وهي مبتسمة أنني أسقطتها، وأنها سامحتني، وأنها الآن تبتسم كثيراً وتفرح أكثر وترسل السعادة لكل من حولها، لكنها لا تشعرها.
تأتيني كل مساء بصورتها الأولى، وتراني محدودب الأمل، وفي صوتي تجاعيد كثيرة، أنستها نبرة الصوت. لكنها على العهد، وإن غابت لا تطيل الغياب.
هي لا تعلم أنها الورقة الأخيرة التي إذا سقطت انتهى أجلي، وأن حفيفها يوقظ روحي.
هي لا تعلم أن الريح تبخل على روحي بإرسال ذاك الحفيف، فليتها تحنو على روح من أسقط البذرة التي صارت ورقة مكتوب فيها آخر سطر في عمره.