سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

وجبةٌ كاملة

عبد الله زمزكي/ المغرب_

لم يكن يدري من أين أتته ضربة قوية على رأسه، وقف من مكانه متألما، وبدأ يبحث بعينيه عمّن فعل به ذلك، فإذا بالسيدة زينب تقف قريبة منه وهي تتأمله في ذهول وخوف، مشمئزة مما تراه عيناها، فصرخت في وجهه: ويحك ما تفعل داخل حاوية الأزبال، ويحك، أخرج من ذلك المكان النتن. لم يعر صراخها أيّ اهتمام، بل تابع يتحسس بيده مكان الضربة على رأسه وهو ينظر إليها نظرة الضعيف المظلوم، وهو يفكر كيف يمكنها أن تضربه بتلك القوة وهي في مكانها.
عاد إلى وضعه من جديد للنبش في الحاوية، ففوجئ بكومة جديدة عند قدميه لم تكن موجودة من قبل، فأدرك حينها أنها التي وقعت على رأسه، فوقف من جديد ينظر إلى السيدة التي ما زالت واقفة تتأمل حاله، وعلى وجهه تبدو علامات الفرح والسرور ممزوجة بأوساخ وندوب، وشفتاه تتمتم عبارات لم تسمع منها السيدة زينب سوى “وجبة”.
أخذ الكومة بيديه النحيلتين ورماها خارج الحاوية بشق النفس، ثم نط خارجا في خفة كَهِرٍّ وعلامات الزهو بادية عليه. جلس على الأرض مسندا ظهره إلى حاوية القمامة، وبسط رجليه واضعا الكومة بينهما. مزقها بأظفاره ثم بدأ يفرغ محتوياتها على مهل، وبين الفينة والأخرى يلتهم شيئا ما في نهم.
تحركت السيدة زينب من مكانها بعد أن أثار ذلك الوضع اشمئزازها، فصارت تبصق على الأرض كل حين، لكنها ظلت تنظر خلفها في إشفاق، ولسان حالها يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله، ليس هذا مكانك يا بني، لكن لم يعد في هذه الحياة ما يسرّ.
وقف من مكانه بعدما أفرغ كل ما في الكومة، لمس أسفل بطنه كمن أحس بالشبع، ثم صار يقذف بقدمه ما أفرغه على الأرض من قمامة ويبعثرها وسط الطريق وعلى الرصيف المجاور للحاوية. وفجأة لمحت عيناه السيدة زينب تعود متجهة نحوه وهي تلوح بيدها، فأدرك أنها قادمة إليه ففر هاربا إلى الزقاق المجاور ثم وقف يراقبها من بعيد.
عادت السيدة زينب أدراجها بعد أن فقدت الأمل في الوصول إليه، وعاد هو الآخر إلى موضعه المعتاد بعد أن تأكد أن التي تطارده قد اختفت، وهو يطلق خلفها بصوت خافت وابلا من السب والشتم. وصل إلى مكانه، وبدأ يتأمل وضعه، اتجه إلى الجانب الأيسر للرصيف حيث العشب وبعض الشجيرات، ارتمى عليه في تعب، واضعا رأسه جنب شجيرة صغيرة ليستظل بشيء من ظلها، فغط في نوم عميق.
وقفت السيدة زينب تتأمله وهو نائم، ملابسه الرثة الممزقة التي لا تقيه لا حر الصيف ولا برد الشتاء، يبدو من ملامحه طفلا وسيما رغم ما عليه من سمرة الشمس وكثرة الأوساخ وبعض الندوب. أشفقت لحاله، وودت لو أن زوجها الحاج إبراهيم سيَقبَلُه لَرَافقتْهُ إلى بيتها حالا، وتَتّخذه ولدا وهي التي لم ترزق بولد.
استفاق من غفوته وفتح عينيه فرآها تقف على رأسه وهي تنظر إليه، وبيدها كومة من ثوب مزركش. فقام من مكانه في وجل ينظر يمنة ويسرة باحثا عن مخرج للهروب. لكن السيدة زينب طمأنته ألا يخاف، وتقدمت نحوه فمسحت رأسه في لطف، ثم طلبت منه الجلوس في مكانه ففعل.
قرفصت هي الأخرى بجانبه، وطلبت منه أن يفتح الكومة بعد أن وضعتها بين يديه. فك عقدة الكومة بيدين مرتعشتين، أزال الثوب فأخرج علبة واسعة من البلاستيك ومعها خبزة كاملة، فتح العلبة فإذا بها قطع اللحم والمرق والبيض وأشياء أخرى لم يرها من قبل، ابتلع ريقه وعاد ينظر إلى السيدة زينب التي ظلت تتأمله، وهو يقول في فرح شديد: هذه وجبة كاملة.
أومأت إليه أن يأكل الطعام كاملا، فأخذ يلتهم كل شيء أمامه في نهم حتى أفرغ العلبة ثم وضعها جانبه.
مسح فمه بظهر يده اليمنى ثم اليسرى، فقام من مكانه واقفا، وقبل أن ينطلق سأل السيدة زينب: قولي لي هل عندكم عرس؟ استغربت سؤاله وهي تفكر في مغزاه، وردت عليه بسؤال آخر: قل يا ولدي ما اسمك؟ وقبل أن تتم سؤالها أطلق رجليه للريح هاربا، وهو يجيبها بصوت ممتد عال: اسمي سعيد.