“نزهت سيدو” بوصلة الانتماء بين الوجع والحنين

عـبـد الـوهـاب بـيـرانـي (كاتب وناقد سوري)_

نصوص متعددة، تتوارد تباعاً تحمل في ثنايا مفرداتها وصورها الشعرية ملامح وطن، وظلال بيت مهجورة، وحقول قمح وعصافير، تتوارد كهطول مطر ربيعي، تتجمع بركة ماء عذب، لا تروي الروح البعيدة عن ملاعب الطفولة، عن بيادر الحصاد، وسنوات العمر التي مضت سريعاً.

سلسلة من النصوص النقية، تنوعت عناوينها بين الحب، والشوق، والحنين، تناوبت حالات مضادة في بناء النصوص، فنجد المرض ومعاناته، والصحة ونعيمها، ونجد أيضاً صور الحياة والموت، الخيبة والنجاح، اليأس والأمل.

عناوين حملت معاني واضحة، شكلت عتبات دخول لعمق النصوص، كأنها مطولة شعرية جديرة أن تحمل هذا العنوان الإيحائي المفتوح على المدى.

“متاهات الغربة” تحملها شاعرة كتبت، وعبرت بكل نقائها وعفويتها عن إحساسها بكل كلمة، وبكل صورة أرادت أن تكون بوصلة تشير نحو الوطن دائماً، ومهما كانت صورة الوطن، إنها تشير إلى جهته بكل أمانة ودفء، وتمنح القراء رسائل أمل، أرادت لها أن تحمل قبساً من الوطن، ومن تراب الوطن، من قريتها، أن تكتب نزيف ذاكرتها بفرح تارة، وحزن وألم تارة ثانية.

تمتلك نصوصها نداء الطبيعة، مشاعرها الدافئة تمنح الأمل لغربة مكتسية بالصقيع، كلماتها تسند الانتظار الشاق، تشعل الدمع الشفيف، فترتعش ستارة الوقت المنسدلة على يوميات مغتربة، فترسل رسائلها، وهي المفجوعة بالبعاد، المترعة بذاكرة تنزف بالحنين، كطفلة مازالت تخربش جهات الهواء، تهرول في دروب قريتها، تلتمس جدران بيتها، وتلهو مع ظلال الشجر، وتمنح الريح ريشاً، تمتطي صهوة اللغة فتحلق في فضاء الشعر تبث مشاعرها رسائل أرهقتها الحياة، تصغي في ليل الغربة الطويل إلى وشوشات الحياة، التي مضت، وترسم أملاً لغدٍ نقي، بهي مشرق.

الكاتبة الكردية السورية نزهت سيدو (Dayika Raman) في باكورة أعمالها حاولت أن تكتب مشاعرها، أن تكتب روحها الكردية بكل عذابات المرض، والمعاناة، أن تدون حزنها ومصائر  وطن ممزق طعنته حراب الغدر من الأصدقاء قبل الأعداء، وترسم مجدداً صورة متفائلة عن مستقبل وطنها وشعبها، تستلهم من التاريخ العظمة والكبرياء والفخر عبر استحضار شخصيات لها مكانتها في التاريخ والوجدان كبارقة أمل ، وتكتب عن ألوان راية شعبها المزركشة بألوان الربيع المشرقة بشمس شعبها العريق، الذي “تتحطم الدنيا ولا يتحطم” تجتاز عبر ممرات حميمية من ضفة الواقع إلى عمق تاريخ موغل بالقدم، والفخار والحضارة.

الشاعرة “أم رامان” تمنح نصوصها دفء العلاقات الحقيقية فهي الأم الكردية المضحية التي جعلت من ذاتها جسراً لأبنائها وبناتها، وهي الزوجة التي حملت نبالة ونقاوة المرأة الكردية إلى بلاد الاغتراب دون أن تخدشها زيف العلاقات، وانتقت من الحضارة الأوروبية ما يلائم شخصيتها وتربيتها، فلم تنسَ وطنها ولغتها، ولم تذب في قعر مجتمعات الصقيع، فدفء بلادها ووطنها “كردستان” بقي نابضاً، مانحاً قلبها العشق والأمل، تتحول الكلمات البسيطة بين يديها إلى صلصال، تمنحها لهيب الحياة وتعد أرغفة الغياب، وتتدفق ينابيع البوح بماء الوطن تروي حقوله والقلب، تمنح حنطة قلبها للعصافير، تلك العصافير، التي أوكلت إليها مهمة ساعي بريد، تحلق نحو تخوم قريتها، تلك القرية التي تضيق وتتسع لتكون صورة لوطنها المثخن بالجراح، والعالي دوماً، الشامخ شموخ جباله الشماء والباذخة العلو والهيبة.

“دايكا رامان” تقدم في كتابها الشعري آمالها وأمنياتها وأحلامها ويومياتها عبر لغة عفوية، لغة قريبة من الحوارات اليومية، دون تصنع لغوي وكأنها تنتهج دروب الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في جوهر الكتابة الإبداعية فيكتب في كتابه “داغستان بلدي” بأنه “من التراب العادي تُصنع أجمل أواني الفخار، ومن أبسط الكلمات تصنع أجمل الأشعار”.

فالشاعرية الحقيقية في دفء وصدق المشاعر، وفي جمال رسم الصور الشعرية، فكينونة الشعر بوح يتلقاه المتلقي، ولا يكمن الإبداع في اللغة القاموسية وتعقيدات إنشاء الصورة، وتهويمات السرد البراقة.

“متاهات الغربة” مجموعة نصوص تعتمد على نقاء البوح وجديته، نصوص شفافة يمكن لها أن تكون أناشيد للطفولة بما تمتلك من بساطة وصدق السرد وجمالية الصور الموحية بالحب والأمل، تتجاوز مراحل العمر تضخ بعذوبة، لخلق فعل إبداعي أساسه العشق، تأسيساً لواقعية مجتمعية جديدة نضرة تحيا دونما قيود، وبلا حدود، فالكتاب بمجله يبوح بصوت كل امرأة تركت خلف البحار وطناً وأهلاً ينتظرون قافلة العودة، عبر نصوص تمارس عويلها مرثية الأمهات، ومراكب الهجرة والرحيل وكل الذين مضوا إلى العالم السرمدي.

“متاهات الغربة” باقة من قصائد عفوية تقدمها الكاتبة نزهت سيدو بين دفتي هذا الكتاب علها تحمل إليكم بعض الأمل في زمن رديء نعيش صراعه ومخاضه، مجبرون ومحكومون بالغربة والأمل.