نحو منصة حوار وطنيّة

تحقيق/ رامان آزاد 

جاء انعقاد ملتقى الحوار السوري ـ السوري بكوباني خطوةً مهمة على طريق تفعيل الحوار الوطنيّ والذي يجب أن يتواصل ويتوسع إطاره ليشمل كلّ القوى والأحزاب الوطنيّة، حتى التوصل إلى حلّ شامل للأزمة.

وحدهم السوريون صنّاع الحل

اليوم نحن على مسافة ثماني سنوات من الأزمة السوريّة اُستهلكت خلالها الشعاراتُ التي رُفعت في بدايتها، وشهدت مآسٍ وكوارث كبيرة بحق الوطن والمواطن، وخلال هذه السنوات عقُدت اجتماعات سلسلة جنيف وسوتشي وأستانه، وظهرت منصات الرياض والقاهرة، فسلسلة جنيف لم تتجاوز حد الدعاية بأنّ ثمة جهد دوليّ يُبذلُ لحلّ الأزمة. لكنها؛ عمليّاً راوحت في الشكليات وحيث البداية ووقعت تحت الوصاية وأعيقت بتدخلِ الإراداتِ الدوليّة والإقليميّة، كما اُستبعدت منها مكوناتٌ وطنيّةٌ، أو أنها أخذت صيغة وظيفيّة محددة الإطار لاستيعاب الدور التركيّ وليثبت لدى الجميع عجزُ الاجتماعاتِ خارج الوطنِ عن حلّ الأزمة.

من ناحية ثانية إذا كان السوريون هم المعنيون بالحلّ فمن الطبيعيّ أن يكون صانعوه، والسبيل لذلك هو الحوار المباشر بينهم، وفي أيّ اجتماع يستوقفنا المكان والزمان والمضمون ومن ثم النتيجة، فالمكان له دلالة رمزيّة ولا نجد أنسب وأقرب من أرض سوريا للمِّ شمل السوريين أيّاً كانت المدينة، وقد شهدت أرض سوريا أعتى هجمة إرهابيّة وأريقت عليها دماء سوريين. وأما من حيث التوقيت؛ فإنّ هذه المرحلة مهمة جداً للبدء بالحوار الوطنيّ، من بعد انحسار الإرهاب وتحرير آخر جيوبه بالباغوز. فيما ما تبقى هو احتلالٌ تركيٌّ مباشرٌ. وتأتي أهمية الحوار في هذه المرحلة ضرورةً ليكون ترجمة للنصر العسكريّ بالميدان، وتكون له إسقاطاته المباشرة في كل المستويات (السياسيّ والاجتماعيّ والأمنيّ) وألا يقتصر على العسكريّ، كما أنّ الحوار سبيلٌ للشراكة الوطنيّة في النصر، فالوطنيون لا يستأثرون بالإنجاز العسكريّ لأنفسهم، بل يهدونه إنجازاً وطنيّاً إلى الشركاء في الوطن. وليكون النصر محكَّ الاختبار للجميع.

من المهم أن نتصدى لحلّ سوء الفهم التاريخيّ بيننا ونعيدَ الاعتبارَ للمفاهيم الوطنيّةِ الثابتةِ ونتبناها معاييرَ للحلّ السياسيّ وفي مقدمها وحدة سوريا أرضاً وشعباً والتصدي لمحاولات التلاعب بالجغرافيا السوريّة عبر الاحتلال أو خلق بؤر الإرهاب، والإقرار بحالةِ الوجود والتنوعِ الثقافيّ وتثبيتِ مفاهيم العيشِ المشترك وتأطيرها قانونيّاً في مبادئ فوق دستوريّة. وفي هذا السياق من المهم جداً مشاركة ممثلين عن مكونات الشعب السوريّ في لجنة صياغة الدستور، وتحريرها من الوصاية والتدخل الخارجيّ.

بين المركزيّة واللامركزيّة

من المغالطات المنطقيّة الشائعة قول البعض إنّنا نرفض نظام الإدارة اللامركزيّ لأنّه يعني التقسيم، إذ أنه ينطوي تضمين النتيجة في الفرضيّة، ولم يثبت أنّ اللامركزيّة المعتمدة في كثير من الدول لم تؤدي إلى التقسيم، بل إلى ضمان وحدتها، وهناك مستويات متعددة من اللامركزيّة وكلّ بلد يعتمد ما يناسبه، والقائلون بهذا إنّما يهدفون إلى إغلاق الباب على مجرد المناقشة واعتماد فرضياتٍ لم تثبت صحّتها. والمسألة الجوهريّة تتعلق باتجاه الإدارة صاعدة من المجتمع إلى المستوى الأعلى للقيادات فتجعلها مسؤولة مباشرة وتضمن الشراكة أم أنّها نازلة تتجسد على شكل وصاية وشموليّة ووجود فاصل بين القيادات الإداريّة والمجتمع؟

بالمقابل لدينا تجربة عمليّة واقعيّة نقدمها للآخرين وليست مجرد فرضيّة، وذلك بالنظر إلى النتائج الإيجابيّة لتجربة الإدارة الذاتيّة الرائدة بكلّ إنجازاتها قياساً بالظروف الاستثنائيّة لولادتها وقدرتها على الاستمرار رغم الإمكانات المحدودة، يمكن القول إنّ نظام الديمقراطيّة اللا مركزيّ يمكن تبنيه وتعميمه على كامل الوطن السوريّ عندما يتم تحسين ظروف البلد ويعم الأمن في ربوعه. وبعبارةِ أخرى لم ننحت مصطلحاً جديداً، فالديمقراطيّة تشكّل جزءاً من اسم كثيرٍ من أسماء الدول والأحزاب والقوى السياسيّة حول العالم، والسؤال أيّ نموذج ديمقراطيّ نسعى إلى تحقيقه، فالمسألة ليست لباساً يُرتدى أو سلعة يمكن استيرادها واتباع تعليماتِ الاستخدام؟

في الواقع نتطلع لديمقراطيّة تتوافق مع الحقيقة التاريخيّة وتستوعبُ الواقع، وتنسجم مع الخصوصيّة السوريّة في تنوعها العرقيّ والدينيّ والثقافيّ. ونموذجاً لا يُعتمد فيها مجرّد الأوراق المكدّسة في صناديق الاقتراع وحسابُ عدد المقترعين؛ لأنّ هذه الطريقة تشرعن مفهوم الغلبة. إذ؛ من الطبيعيّ أن تحصّل الكتل الأكبر عدد أصواتٍ أكثر، ونظام أردوغان الاستبداديّ يعتمد الانتخابات سبيلاً لتثبيت حكمه وقد عطّل تشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرلمانيّة في حزيران 2016 بسبب الإنجاز الانتخابيّ لحزب الشعوب الديمقراطيّ، وبذلك فالانتخابات ليست سبيلاً لضمان الديمقراطيّة في بلد يتم فيه تزوير بيئة الانتخابات والتضييق على الحريق وحق التعبير والتهديد بالفوضى، بل تؤكد الإقصاء والتهميش وتسبغ عليه التوصيف القانونيّ، والصحيح أن الديمقراطيّة بجب أن تضمن حقوق المكونات الأقل عدداً، وتكفل وصول أصحاب الكفاءة والخبرة إلى مواقع المسؤوليّة.

النتائج الإيجابية لتطبيق الديمقراطيّة رهن بأسلوبِ واتجاه تطبيقها، هل مركزيّة أم لا مركزيّة؟ ففي مفهوم الديمقراطيّة المركزيّة نجد أن ما يُمنح عبر الأقنية الديمقراطيّة يُسترد بالمركزيّة، حيث يمارس المركز صلاحيات واسعة على حساب باقي المناطق، فيما تتراكم القضايا الخدميّة في مركز واحد وتنمّي المركز على حساب تخلف وضعف الخدمة المجتمعيّة في المناطق البعيدة والأرياف. كما أنّها رافعة الروتين والبيروقراطيّة وسبيل المراسلات الإدارية المعقدة، وبالتالي عاملٌ مساعدٌ للفساد، وبذلك تتعطل آلية اتخاذ الإداريّ، فيما اللا المركزيّة تثبيتٌ ما تمّ تحصيله بالديمقراطيّة ومن شأنها أن تحل المشكلات الاقتصاديّة وترفع جودة الخدمة المجتمعيّة للمؤسسات العامة وتأمين حاجات المناطق وتعزز المشاركة، وهي سبيل ضمان حقوق المكونات الوطنيّة الأقل عدداً المعرضة للتذويب في بوتقة المكونات الأكبر. واللامركزيّة ضرورة ديمقراطيّة تجسّد مبدأ الديمقراطية الإداريّة، وضمان المرونة بالعمل الإداريّ والحد من ظاهرة الروتين والبطء في اتخاذ القرار في قضايا المحليات، كما أنّها تمّكن من تحقيق العدالة، وإعداد أبناء المجتمع سياسيّاً واجتماعيّاً وتوفير فرص المشاركة الأوسع بالقرار وبالتالي رفع الوصاية عن المجتمع.

يُفترض بالحوار أن يشكّل علامة فارقة في تاريخ سوريا ترتقي لمستوى الثورة، وتتمتع بمستوى عالٍ من الشفافيّة والصراحة، ولا يُقبل أن يكون تهميش مكون أو فئة مجتمعيّة بسبب هواجس افتراضيّة لدى فريق آخر، ومن الضروريّ ضمان الاستثمار الكامل لكلّ الطاقات البشريّة وإشراك عادل للمرأة والشبيبة في مراكز القرار، وضمان الحريات العامة وحق العمل لكلّ الفئات، وأن تكون حاضرة في الحوار.

الفراغُ مجردُ افتراضٍ

من المؤكد أنّ هناك أطرافاً تعيقُ الحلّ السياسيّ وتعملُ على فرض أجنداتها وأول هذه الأطراف حكومة أنقرة، ومنطلق مقاربتها للأزمة هو مصالحها وتعزيز نفوذها بالموقع الجيو سياسيّ لسوريا وليس مصلحة الشعب السوريّ، وهذه الأطراف متنافسة ولم تتوصل لتوافقاتٍ فيما بينها ولذلك عملت على إعاقة الحلّ السياسيّ. وحتى التوافقات بينها لا تصب في مصلحة السوريين، بل على حسابهم، فالتقارب الروسيّ التركيّ كان أيديولوجيّاً وتقاطعاً بين النظرية الأوراسيّة الروسيّة لإحياء ميراث القيصريّة ونظرية العمق الاستراتيجيّ التركيّة لإحياء ميراث العثمانيّ، وكانت النتيجة سلة اتفاقات اقتصادية ومد خط الغاز وصفقة صواريخ، وكانت عفرين ضمن جملة التوافقات. وفي هذه المرحلة تسعى أنقرة إلى تعويم المجاميع المتطرفة في إدلب وإعادة صياغتها، لتقديمها طرفاً سياسيّاً في المفاوضات وفق المعايير الروسيّة؛ وهذا ما أجّل العملية العسكرية في إدلب رغم سقوط اتفاق سوتشي في التطبيق وعدم وفاء أنقرة بالتزامها في إنشاء منطقة منزوعة السلاح. فأنقرة ليست بصدد إنهائهم باعتبارهم أداة التغيير الديمغرافيّ على الحدود والتي تريد عبر النفوذ إلى المنطقة، فيما سوريا موطئ القدم الروسيّة على البحار الدافئة، وبالتالي لا مصلحة مؤكدة للسوريين في تناقضات القوى الدوليّة والإقليميّة ولا في توافقها، ما يحمّل السوريين مسؤوليّة حلّ الأزمة بأنفسهم.

الشعب السوريّ لا يعاني قصوراً في إرادته، وما يتم تداوله عن فراغٍ شرق الفرات افتراضيّ محض وهو دليل التنافس الدوليّ والإقليميّ، إذ لا فراغَ في منطقة استطاع أبناؤها من مختلف المكونات مأسسة مجتمعهم وقيادة الحياة وتحرير القرى والبلدات من الإرهاب بأنفسهم، وكانت عفرين نموذجاً لذلك لولا العدوان التركيّ عليها. ما نطالب به القوى الكبرى هو لجم الجموح التركيّ ووضع حدٍّ لمشاريعه الاحتلاليّة وإخراجه من الأراضي السوريّة، فيما نؤمن أنّ الحوار الوطنيّ هو السبيل الوحيد لحلّ الأزمة، ليكون النصرُ وطنياً لكلّ السوريين ونبدأ بعملية إعادة الإعمار معاً.

المهم أنّ الحوار السوريّ ـ السوريّ انطلق وكان صوتَ السوريين وعبر عن طموحاتهم وإرادتهم في إذابةِ الجليدِ وتجاوزِ المسافات فيما بينهم، ورفض الأسلوب العسكريّ حلاً للأزمة، وكان ملتقى كوباني علامة بارزة في تأكيد الثوابت الوطنيّة وتبنيها لها، ومن المأمول انضمام المزيد من الأطراف الوطنيّة وتوسيع آفاق التوافق، لوقف نزيف الدم السوريّ والتعجيل بعودة اللاجئين والنازحين وانطلاق بإعادة الإعمار.