سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مَن هو المُثقَّف؟

جمال الجشي

يقول الزَّمَخشري (٥٣٨ هـ) في كتابه “نوابغ الكلم”: “مَجدُ التَّاجر في كِيْسِه، ومَجد العالِم في كَراريسِهِ”.

لا نعرف على وجه الدِّقة متى بدأت صفة “مُثقَّف”، تُطلق على أصحاب الفِكر والمُبدعين والمُتمكِّنين من الآداب والعُلوم والفُنون، فالصّفات مثل مُثقَّف ومُفكِّر ومُبدع وغيرها لم نعرفها إلاّ في الدراسات الحديثة التي تناولت فكر وحياة أهل العلم والأدب والفنون على مدى العصور المختلفة، ولعل استعمالها في اللغة العربية قد انتشر نوعا ما نتيجة المثاقفة والتَّرجمة عن اللغة الإنجليزية.

لو بحثنا عن أصل الكلمة في اللغة العربية نجد أن الجَذر اللُّغوي لكلمة مُثقَّف هي ثَقَفَ الرُّمح؛ أي صار حاذقاً وخَفيفاً، وكانوا قديما يقولون: الرجل الثَقِفُ من كان رامياً ماهراً بيد خَفيفة وعين حاذِقة، لا يخيب إذا رمى ويُصيب، ويقول ابن مَنظور في معجم لسان العرب: “ثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقاً خفيفاً وماهِرا”.

والمُثَقَّف كما ورد في بعض معاجم اللغة العربية: اسم مفعول من ثقَّفَ، وثَقَّف الوَلدَ أي هذّبه وعلَّمه، فهو مثقّفٌ وهي مثقّفةٌ، ويقال رَجلٌ مُثَقَّفٌ أي ذو ثقافة، مُتَعَلِّمٌ، ومَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ، والنُّخبةُ المُثقَّفةُ هي نُخْبَةٌ مِنْ أَهْلِ الفِكْرِ وَالثَّقَافَةِ، والتّثْقيف الذّاتيّ هو اعتماد المَرء على نَفسهِ في اكتساب ثقافَته خِلافَ من يتثقّف على أساتِذَة أو في مَدرسة، أما الثًّقافة: فهي العلومُ والمعارفُ والفنون التي يُطلب الحذق فيها.

من خلال ما تقدم فلا بد لنا من معرفة المُثقَّف الحقيقي وتمييزه عن غيره ممن يدعون الثقافة والمعرفة، فالشخص المثقف هو الّذي تلقّى قدراً من التعليم، وهناك من يربط ثقافة الشخص بالأفكار، أي أن المُثقَّف هو الشخص القادر على التعامل مع الأفكار التي أنتجها الأدباء والفلاسفة والمؤرخون القدامى وغيرهم، وعلى إنتاج الأفكار الجديدة.

ويطلق المثقف غالبا على شخص لديه وعي ومسؤولية اجتماعية، وتفكير نقدي لحالة مجتمعه، وطرح حلول للمسائل من خلال حصيلته الثقافية الواسعة في شتى الآداب والفنون والمعرفة، أي هو الذي يبذل الجهد لتطوير المُجتمع من حوله من خلال قراءة التاريخ والدين والعادات والتقاليد، والتبصر في حال الأمة، وهو الإنسان المتواضع الساعي إلى الناس بلا تردد ويحمل رسالة سامية، ويمتاز بمرونة رأيه، وتقبله للنقد، واستعداده لتلقي الأفكار الجديدة والتأمل فيها، ولا يبخل بعلمه ومعلوماته على غيره من أفراد المجتمع، ومناصرا للحق والحقيقة منافحا عنهما.

ولكي نفهم دور المثقفين في المُجتمع، علينا أن نفهم ما يَفعلونه، وليس ما يَزعمون أو يعتقدون أنَّهم يفعلونه.

يقول الدكتور نديم البيطار – مفكر لبناني (١٩٢٤م.- ٢٠١٤م.) – واصفاً وضعية المثقف الحقيقي: “الميزة الأساسية التي تميز المثقف الحقيقي، ليست الشهادات الجامعية العليا، ليست الدكتوراه، وليست حتى عدد الكتب التي يكون قد قرأها، بل هي استيعابه وتمثّله، وليس فقط إدراكه للعقل العلمي، الذي يعني في أبسط معانيه استخدام العقل لاتخاذ قرار بشأن كيفية التصرف، وقدرته بالتالي على ممارسته في المشاكل التي يدرسها ويعالجها، وفي الحوار أو النقاش الذي يدخل فيه. إنها القدرة على الموضوعية العلمية والعقلانية العلمية والعقل النقدي في استيعاب المعرفة، لهذا كان من السهل على المتعلم أو المثقف بأن يكون نصف مثقف على أن يكون مثقفاً حقيقياً، لأن النصف الآخر لا يتوفر عن طريق القراءة، أو الشهادات الجامعية أو المعرفة فقط، بل بإدراك طبيعة المعرفة الحقيقية”.

ختاما لا بد من الإشارة إلى أن المفاهيم الثقافية قد اختلطت في عصرنا الحالي، خاصة بعد انتشار “السوشيال ميديا” ووسائل التواصل الافتراضي المختلفة، حيث ظهرت إلى السطح شخصيات ساذجة من الفنانين والأدباء والعلماء وغيرهم ممن يحملون الأفكار والمعتقدات الخاطئة ويلتقطون كلامهم وأفكارهم من هنا وهناك دون تمحيص وتدقيق، ويعملون على نقلها للجمهور من خلال تقديمهم على المواقع الإعلامية المختلفة على أنهم من النخبة الثقافية والمؤثرة في المجتمع، لذا على المتلقي أن يكون حذرا في متابعة مثل هذه النخبة أو التأثر بأفكار أصحابها، وعليه التأكد من صحة أقوالهم قبل تصديقها.