سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

“ميلا”

تيودور أرغيزي_

ترجمة: محمد مندور
كنت أدير مكتبة في مصيف تائه وسط البحيرات، وهناك كنت أقضي إجازات الدراسة، حيث أعيد بيع الكتب التي اشتريتها أثناء العام، مضافا إليها عدد آخر أحصل عليه بالتخفيض، وكان كل ما أملك من الكتب لا يعدو ملء أربعة صناديق، وكانت مرصوصة على رفين يضفي عليهما شيء من الحيوية تمثال الخزف، وفي هذا العام كنت قد اشتريت أيضا نسرا رماديا ووعلا.
كانت “ميلا” ترتدي ثوبا طويلا من قطعة واحدة يلفها كأنه القفاز، وكان ثوبا أسود محليا بأزرار من الصدف، وينزل من عنقها إلى حذائها، وكانت تأتي منذ أربع سنوات كل أسبوع  لتختار كتابا تقرأه ثم ترده، وقد اعتادت كتبي لمس أصابعها الشقراء الحانية، وراحة يدها الوردية؛ وذات أصيل تأخرت، وخبا الضوء، وانتشر الظلام، وتهافتت الأحاديث متباطئة كأنها العربات المحملة بأعشاب من الظلال، تجرها ثيران هادئة، وأضاء مصباح في أحد الأدوار من الناحية الأخرى للطريق، ثم مصباح آخر، وأخذت واجهات المحال تتلألأ، وأمواج من خيوط الذهب ترتسم على مسافة أبعد في واجهات أخري، وخرجت من صمت لأستيقظ في قلب صمت آخر.
وفي مواجهة المكتبة رفع جزار سكينا طويلة فوق فخذ خنزير مجففة، كي يبدأ في تقطيعها بمجرد أن تصدر له التعليمات من سيدة ذات “عوينات بمقبض”، بينما شاربه الأحمر يصفر في أذنيه.
ومثله كنت أتساءل: كيف أقطع الصمت المظلم في مكتبتي، فقطعه يستثير الفكر، والفكر يجلب الصمت، صمتا عميقا كالنوم وتحت مصباح مجاور عكس فجأة شعاعه في زرقة عينيها، لمحت دموع ميلا، التي كانت تتساقط منذ وقت طويل دون أن أفطن إليها، وقد دفنت وجهها بين يديها، وكأنها تمثال نافورة في بستان وهي تبكي بهدوء.
كانت دموعها موجعة لي، وكأنني الزمن عندما يقترب الظلام، وكتنهدات الألفاظ المرصعة في أشعة تمزقها الأضفار، وكأنها العصافير الجريحة التي تخلت عنها روح معذبة.
لقد كانت الزهور والحقول والغابات هي التي تبكي، بل وربما أيضا مطر الخريف الرمادي، وكأن جوقة من القيثارات ترتعد في الفضاء، وزهرات أقحوان الغابات اللدنة تهتز فوق سيقانها الرهيفة وكأنها لباب الذهب، وأشجار وهمية تلقي أوراقا وهمية على مخمل الطريق الذي تجوبه رعشة صدي يتيم.
خطر لي أن أدير محول الكهرباء الموجود جانبي، ولكنني شعرت بيدي يغزوها خدر عذب، وأحسست كأنني انغمست في ماء عميق فاتر هادئ، لم تجرؤ ذراعاي أن تبرزا منه، وتكثف الظل وكأن كتبي وجميع أشيائي قد نشر فوقها بساط من الزغب والعشب والحشائش.
وقالت أزهار النباتات المشعة للضوء: إن القمر سيظهر قريبا.
وقال الجراد الخفي: ستبرز أمام أبصارنا أبهاء ذات قباب، وبيوت على السفوح بأسقف من القرميد، وستنشق لنا بحيرة زرقاء مغطاة بالأزهار، وستخترق الوعول المستنقع كي تعود إلى مأواها، ثم انظر ها هي الغزلان تقفز في المرج، وتسقط بأذنيها همسات النسيم، ثم أنصت إلى هذه الأغنية العميقة، التي تشبه النواقيس الغرقى، والضفادع ذات الظهر التركوازي تظهر في ضوء القمر فوق رعشة الموج.
وعلا صوت بوق في مكان محاط بجدران صخرية، وطرقات مزدانة بالزهور، وحاول رجل يشد حزاما ذا مفاتيح أن يفتح برفق الأبواب الحديدية الصامتة، وخطت قدمه فوق الدرجات المخملية، وكنت هناك خالي النفس وسط كتبي كلها، وميلا إلى جواري ساكنة متكئة على الأرفف، وقد توقف لساني كإبرة البندول، فأخشى أن أحركه، وكيف تستطيع ساعة قد توقفت أن تحدد الزمن وسط الليل؟ فالإنسان ينظر فيه دون أن يرى، وكان وجه ميلا أبيض كالقماش وباردا.
مددت ذراعي كي أضيء النور، فاصطدمت يدي بكتفها إلى جواري، بينما امتدت يدها لتتحسس رأسي، وكأنها تبحث عن قبس؛ عندما تصبح الألفاظ عبثا، تعرف الأيدي كيف تجد الألفاظ والأفكار المناسبة.
وسألت ميلا: لماذا تبكين؟ ولماذا …
ـ أنا لا أعرف البكاء.
ــ ولكننا نبكي على غير وعي منا كالغرقى فوق جزيرة مظلمة.
ودخل زبون ضعيف البصر يتعثر في خطاه إلى الدكان، فأعادنا إلى الواقع وهو يقول:
ـ عفوا … هل هنا أحد؟ إنني أريد مرجعا حسنا في الفلسفة العامة.