سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

موسكو… انفرادٌ بسوريا وتحجيمٌ للآخرين

تحقيق/ رامان آزاد –


انطلقت موسكو من مخاوف حقيقيّةٍ على أمنها القوميّ مع الإرهاصاتِ الأولى للتحولاتِ بالواقعِ السياسيّ في ظلِّ الربيعِ العربيّ وتقدم المشروع الإخوانيّ الذي بدأ عام 2010 بفوزِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ المغربيّ بالأغلبية النيابيّة، والتحوّلاتِ بتونس ومصر، وخشيت من خارطة إخوانيّة تستمرُّ حتى تركيا الجارةُ المتدخلةُ في ملفاتِ القوقاز وأذربيجان، وبذلك تدرّجت موسكو بنقلِ أزمتها إلى المنطقةِ لينتقلَ آلاف المتطرفين الشيشان والأنجوش والداغستان وسواهم للحرب في سوريا. كما أرادت أن تكونَ سوريا بوابةَ الخروجِ للواجهةِ العالميّة فتنافسَ الولاياتِ المتحدةِ، بعد مرحلةِ الارتباكِ نتيجةَ انهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ.

 

خطةُ موسكو وتحجيمُ القوى

تدخّلت موسكو عسكريّاً في سوريا في 30/10/2015، بعدما أدركت جيّداً المناخَ السياسيّ العام فيها وطبيعةِ الصراعِ والمصالحَ الإقليميّةَ المتباينةَ حولها والهواجسَ الأمنيّةَ لكلِّ دولةٍ مجاورة لها، فعملت على ربطها بالأمن الإقليميّ، مستوعبةً طبيعةَ علاقاتِ الدولِ والمجموعاتِ المسلّحةَ المحليّة المرتبطة بكلّ دولةٍ، وطرحت نفسها ضامناً لذلك، لتتراجع تلك الدولة متعاونة بما يتصلُ بأمنِها الوطنيّ، وتعملَ على فكِّ ارتباطها بها، وتقبل الجيش السوريّ كحلٍ وسطٍ، وتفهمتِ المواقفَ الدوليّة حيالَها وبخاصةٍ الموقف الأمريكيّ.

تبنّت موسكو سياسة مركّبةً في سوريا لم تقتصر على الغاراتِ الجويّةِ المكثّفة، بل جعلتها ميدانَ تطبيقِ كلِّ خبراتِها السياسيّةِ والعسكريّةِ والاستخباريّةِ المتراكمةِ خلال جولاتِ الصراعِ مع الحركاتِ الإسلاميّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ في عقدِ التسعينات، والاعتماد على أطرافٍ مواليةٍ لضربِ المعارضين، أو ضربِ الخصمِ بالخصمِ.

أما جوهر سياسةِ موسكو مع الدولِ والأطراف الإقليميّة فيقوم على تقزيمِ الدور الإقليميّ وتطويعه لخدمة رؤيتها للحلِّ السياسيّ، وعلى ديناميّةِ نقلِ الصراعِ من المدنِ إلى الحدودِ باستغلالِ مخاوفِ الأمن الإقليميّ، ومن ثم التدخلُ لإنجازِ صفقةً للتهدئةِ، وجني عوائدِ التحجيم بمكانٍ آخر، ومن أمثلة ذلك اتفاقُ (حلب-الباب) أو (عفرين-الغوطة) أو (درعا والجنوب مقابل التراجع الإيرانيّ).

كان المفصلُ السوريّ بوابةَ العبورِ الروسيّ للعبِ دورٍ عالميّ وتعزيزِ وجودها على البحارِ الدافئةِ، فسوريا هي جغرافيا الانطلاق، لتتجاوز الدولَ الحدوديّةِ وتكسر جمودَ العلاقةِ مع قوىً إقليميّةٍ فاعلةٍ بالملفِ السوريّ، كالدور العربيّ الممثل بدول الخليج، والذي تمّ تصغيره وإعادة صياغته جزئيّاً كعقدِ صفقةِ منظومةِ إس-400 مع السعودية التي انحسر دورها بالملف السوريّ بترحيلِ جيشِ الإسلامِ وفيلقِ الرحمن من الغوطةِ.

الخطةُ الروسيّةُ قلّلتِ الدورَ الغربيّ بسوريا، فلم تتمكن دولُ الناتو من اتخاذِ قرارٍ بعمليةٍ عسكريّةٍ وفقَ النموذجِ الليبيّ، وانحصر الدورُ الأمريكيّ في حدودٍ جغرافيّةٍ بتنسيقٍ إلزاميّ، وبخاصةٍ بعد لقاءِ قمةِ العشرين في هامبورغ بين بوتين وترامب في 7/7/2017، والذي كان إشارةً للقوى الإقليميّةِ بتعديلِ مواقفها، وترجمت موسكو منجزاتِها العسكريّة على الأرض سياسيّاً بالالتفافِ على مسارِ جنيف وتغييرِ أولوياتِ “ديمستورا” الأربعة وإعطاء الأولويّةِ لمحاربةِ الإرهابِ، وفرضِ تفسيرها بالبند المتعلقِ بهيئةِ الحكمِ الانتقالي وفق القرار 2254 وكذلك اللجنة الدستوريّة. أي مصادرة مرجعيةِ جنيف وتحويلها إلى أستانة، وهو ما اصطلح المراقبون بتسميته “أستنة” مسار جنيف.

 

استيعابُ الدور التركيّ

أدركت موسكو أنّها لن تستطيع تحقيق إنجازاتٍ كبيرةً عبر الغارات الجويّة، وأنّ المهمِ تحوّلات على الأرض، التي تسيطرُ عليها فصائلُ الإرهابِ المسلحة والتي تدينُ بالولاء لأنقرة، المنخرطة للحدِّ الأقصى بالأزمة السورية، فباتتِ الحدودُ التركيّة معبرَ الجهاديين والسلاحِ وكلّ أشكالِ الدعمِ اللوجيستي، ووفقاً لخطتها بدأت بخطواتٍ انطوت على فهمِ الهواجسِ الأمنيّةِ وتعزيزها بشكلٍ أكبر كمرحلةٍ أولى، وبربطِها بالأمنِ الإقليميّ، ثم طرحت نفسها ضامناً لتلك الهواجسِ كمرحلةٍ ثانيةٍ.

تعمدت موسكو رفعَ منسوبَ المخاوفِ التركيّةِ الافتراضيّةِ التي تتذرع بها أنقرة لتتدخل في سوريا وتدعم الإرهاب، وأولها القضيةُ الكردِ وتصل درجة “الفوبيا”، فراحت موسكو تتحدثُ من وقتٍ لآخر عن إمكانيّةِ صيغةِ حلٍّ سياسيّ يقرُّ بحقوقِ الكرد ودستورٍ سوريّ يؤطر ذلك، وفتحت ممثليةً للإدارةِ الذاتيّة بموسكو، ليكونَ ذلك عاملَ ضغطٍ في مفاوضةِ أنقرة وفرض شروطها وتجيير دورها لصالحها، بعدما تيقنت بعدمِ إمكانيّةِ إنجازاتٍ ميدانيّةٍ بتجاهلِ دورِ تركيا التي لها الكثيرُ من الدالةِ على الفصائلِ المسلحةِ المرتزقة، فتجاوزت عن إسقاطِ طائرتها القاذفة في 24/11/2015 وردّت بنشرِ منظومة الصواريخ إس-400 في 26/11/20-15، وجاءت الرسالة التالية باغتيال سفيرها بأنقرة أندريه كارلوف في 19/12/2016 فيما صرخ القاتلُ بالتكبيرِ والصراخِ “لا تنسوا حلب”، فكان اتفاق حلب وخروج المسلحين منها في 22/12/2016.

أفضت تفاهماتِ أستانة، إلى استيعابِ الدورِ التركيّ وإنشاءِ مناطق خفضِ التوتر فدخلت تركيا إلى إدلب وأقامت 12 نقطة مراقبة، ومضت موسكو بإنجازِ صفقةٍ تضمنت سحبَ قواتها الرمزيّة من عفرين لتكونَ إشارة لبداية العدوان، رغم إدراكها لأهدافِ التدخلِ التركيّ وعدواتها للكرد ورغبتها بالاحتلالِ وضرب مفرداتِ المشروعِ الديمقراطيّ الذي كان يتقدم على الأرضِ. واليوم يستمرُّ السيناريو الروسيّ اليوم شرق الفرات، باستغلالِ الموقفِ الأمريكيّ البراغماتيّ وتشتيتِ موقفِ دول الناتو ومرة ثانية باستغلالِ الموقفِ التركيّ وعداوته للكرد، وإنجازِ صفقاتٍ على حسابِ المكونات السوريّة، وتحقيقِ مكاسبَ مجانيةٍ.

أستانة وإنشاء مناطق خفض التوتر كانت خطة روسيّة محكمة اعتمدت على استخدام القوةِ العسكريّة المفرطة والقصف الجويّ المكثّفِ وعرضِ الترحيل والنقلِ إلى إدلبِ و”شيشنة” الأزمةِ السوريّة بمعرفتها حجم التناقضات بين هذه الفصائل غير المتجانسة وحصرها كلها على الحدود التركيّة لتضطر معها للدخول في طاعة أنقرة التي جمعت عشرات الفصائل في إطارِ جيشٍ افتراضيّ باسم “الجيش السوريّ الوطنيّ” واستغلته للعدوان على السيادةِ السوريّةِ واحتلالِ مناطقَ على الحدود.

 

تحجيمُ دورِ الأردنِ والخليجِ

تشكّل معركة الغوطة مرحلةً مفصليّة بالحربِ السوريّة، وبموجبها تحقق أهمِّ أهدافِ روسيا بتوسيعِ الإطار الآمن حول دمشق، عبر غارات جويّة وقصفٍ مكثفٍ ومن ثم تدخّلت أنقرة طرفاً ضامناً لنقلِ المسلحين إلى إدلب.

بعد ذلك كان الانتقالُ للجنوبِ السوريّ حيث كانت بدايةِ الأزمةِ السوريّة، فدرعا لها رمزيّتها الخاصة، وأولى الشعاراتِ المناهضةِ للنظام ارتفعت دعماً لدرعا، ليس هذا وحسب، بل إنّ درعا تعني الدورَ الأردنيّ وغرفة “الموك” والمعبر إلى دول الخليج، كما تعني أخذَ العاملِ الإسرائيليّ في حسابات موسكو.

رفع منسوبِ المخاوفِ الأمنيّةِ والاقتصاديّةِ كان العاملَ المهمَ باستعادةِ السيطرةِ على منطقةِ الجنوبِ بعد الانتهاءِ من معاركِ الغوطةِ الشرقيّةِ، ثم طرحِ حلٍّ لاستيعابِ المخاوفِ، بفتحِ المعابرِ ومباشرةِ عملياتٍ عسكريّةٍ مشتركةٍ ضد “داعش” وإعادةِ انتشارِ النظامِ على الحدود، مقابل تخلّي الأردنِ عن فصائل الجنوبِ ودخولِ النظامِ وقواتِ الشرطةِ العسكريّةِ الروسيةِ إلى المدنِ والبلداتِ.

وعبر التنسيق مع واشنطن تمّ أخذ التحفظ الإسرائيليّ بالاعتبار، فكانت موسكو الضامنَ لتراجعِ الوجودِ العسكريّ الإيرانيّ 100 كم، مقابل عودة قواتِ النظام إلى الحدود وانتشار الشرطة العسكريّة الروسيّة بالمنطقة.

أدّت عملية نقل المسلحين مباشرةً إلى قطعِ علاقات الفصائل ِالمسلحة بدولِ الخليجِ، لتنجح موسكو بتحجيمِ دورِ القوى الإقليميّة بالميدانِ السوريّ وتقضي على طموحاتِها، وتقللَ تأثيرها بالحلِّ السياسيّ، وتتحوّل جهةُ الصراع المسلح ليكونَ بين المكونات السوريّة نفسها، أي إضعافُ كلّ القوى الميدانيّة، وبذلك أتمّت حرفَ أهدافِ الأطرافِ الإقليميّة وأجبرتها على الانتقالِ من تحصيلِ المكاسبِ إلى تخفيفِ الخسائر، وبالمحصلة استطاعت تحجيمَ الأطرافِ المحليّة المرتبطة بتلك القوى وما يتبعها من مشاريع. كما أنّها أعادت ضبطِ الحدودِ السوريّةِ، وضمنت عودة سلطةِ النظامِ إلى مناطقَ كانت تحت سيطرةِ الفصائلِ المسلحةِ بالغوطة وجوار دمشق وكاملِ الجنوبِ السوريّ، وتأمين طرق المواصلاتِ، وبالتالي قطعت أشواطاً على مسارِ خطتها بالانفرادِ بالحلِّ السياسيّ، والذي كان يتضحُ عبر تشكيلِ اللجنة الدستوريّة. وانتقلت إلى إنجازِ صفقاتِ مع الدول، لصالحِها، تتجاوزُ حدودَ الملفِ السوريّ (صفقات اقتصاديّة وزيادة حجم التبادلِ تجاريّ، وبيع السلاح).

مشكلة منطقة الشرق الأوسط غياب سياساتِ التنسيقٍ المشتركة والتعويلُ على الدورِ الأمريكيّ والتأثر به، فكان تغيّرُ السياسةِ الأمريكيّة بالمنطقة ممهداً لدورٍ روسيّ أكثر فاعليّة، واستثمارِ التناقضاتِ الإقليميّة لصالحها. وفي ظلِّ الانكفاءِ الأمريكيّ النسبيّ بالمنطقة راكمت موسكو نقاطاً إضافيّةً، كما استفادت من التناقضاتِ بين دولِ المنطقةِ وتنافسها، كالورطةِ الخليجيّة باليمن والاختلاف حول سوريا، والتناقض الخليجيّ-الإيرانيّ.

 

طهران ليست استثناءً

لا تستثني موسكو الحليفَ الإيرانيّ من سياسةِ التحجيمِ، ورغم ظاهرِ علاقةِ التنسيقِ، فالتسريباتُ ذكرت محاولاتِ موسكو بتحديدِ دورِ طهران، وتأتي العلاقةُ مع أنقرة في سياقِ إيجادِ صيغةِ توازنٍ بين قوتين إقليميتين صاعدتين مع فارقِ الاختلافِ المذهبيّ والتموضعِ السياسيّ، لتقللَ من دورِ إيران المنافسةِ لها وتخفّضها لتكونَ بموازاةِ تركيا.

هناك اختلافٌ جوهريّ في منطلقاتِ التدخلِ العسكريّ بين موسكو وطهران، فيما التنسيق يتصلُ بالشراكةِ الاستراتيجيّة بمواجهةِ قوى الغربِ، أي خارجَ الحدود السوريّة، وتستجيبُ موسكو للمطالبِ الأمريكيّة والإسرائيليّة بوضع حدٍّ للنفوذِ الإيرانيّ في سوريا بالجنوب والشرق على حدودِ العراقِ. وإذا كانت طبيعةُ المعاركِ قد فرضتِ التنسيقَ بين الطرفين، إلا أنّه بعد انحسارِ التهديدِ الإرهابيّ، وحصره بجغرافيا محدودة بعهدةِ النفوذ التركيّ قد فرض التنسيق مع أنقرة. كما تتضح التبايناتُ بين موسكو وطهران حول إعادةِ هيكلةِ الجيشِ السوريّ وإدارةِ الأزمةِ والعبورِ إلى مرحلة إعادة الإعمار والاستثمارِ في مجالاتٍ مختلفةٍ أهمها الثرواتِ الباطنيّة والعقودُ الاقتصاديّةُ ومستقبلُ سوريا، وكذلك مراعاةُ موقفِ دولِ الخليج إزاء إيران، والمسألة هنا تتعلق بمنافسةِ واشنطن.

لم تبدِ موسكو مواقف اعتراضٍ على الغاراتِ الجويّة الإسرائيليّة التي تستهدفُ المواقعَ العسكريّةَ الإيرانيّة، ولم ينقطع تواصلها بتل أبيب. وهي تعلم أنّها الخيارُ الإلزاميّ لطهران لمواجهةِ العقوباتِ الأمريكيّة والتناقضِ مع الخليجيّ والحضورِ بالساحة السوريّة، فالحضورُ الإيرانيّ له حدودُه بالمنظورِ الروسيّ، ليكونَ لصالحه وليس على حسابه. 

 

شرق الفرات وتحجيم الدور الأمريكيّ

أنقرة لعبت في دائرةِ التناقض الروسيّ- الأمريكيّ لتنجوَ من سياسةِ التحجيم الروسيّة، فعقدت اتفاقَ الآلية الأمنيّة مع واشنطن في 6/8/2019، فيما استمرّت موسكو بإطلاق التصريحاتِ التي تستفز أنقرة بالحديث عن دويلة افتراضيّة شرق الفرات، وأشارت إلى تفهمها للمخاوف الأمنيّة التركيّة ليكون ذلك إشارة الرضا بالعدوانِ على شرقِ الفرات، الذي بدأته أنقرة فعليّاً في 9/10/2019 متجاوزةُ اتفاق الآليةِ الأمنيّةِ مع واشنطن، ومستخدمة فصائل إرهابيّة تمّ تجميعها بمسمى “الجيش السوريّ الوطنيّ، أي باتباع تكتيكِ ضربِ الخصمِ الإرهابيّ بالخصمِ السياسيّ الممثل بالإدارةِ الذاتيّةِ، والحجة الجاهزة “الأمن القوميّ”. وانطلقت موسكو في مقاربتها على إمكانيةِ قيامِ الولاياتِ المتحدة وتركيا بإنشاءِ منطقةٍ جديدةٍ في شمال شرق سوريا يشكّل تهديداً لاستراتيجيةِ دمشق المتمثلة بفرض السيطرة على جميع الأراضي السوريّة. فموسكو تعتقد أنّ خطة السلام التي تمّ التفاوض عليها مسبقاً ضروريّة لإبعاد تركيا عن الخطط الأمريكيّة في سوريا، وهي لا تتجاهل إمكانية وجود شراكة تركيّة-أمريكيّة تمتد إلى المنطقة الواقعة شرق الفرات.

بادرت واشنطن إلى سحب قواتها من الحدود لتتجنبّ الصدامَ المباشر، وأوفدت نائب الرئيس مايك بنس في 17/10/2019 للاتفاقِ حول هدنةٍ، وتجدد الحديثُ عن تفهمٍ أمريكيّ لمخاوفِ أنقرة الأمنيّة، وعُقد اتفاقٌ جديد وهدنة لوقف إطلاق النار.

قبل انتهاء اتفاق الهدنةِ مع الأمريكيّ بساعات، التقى أردوغان مع بوتين في 22/10/2019 وعُقد اتفاقٌ شرعن التدخلَ التركيّ بمزيدٍ من المجاملة على حسابِ الجغرافيا السوريّة وانسحابِ قوات سوريا الديمقراطيّة من الحدودِ وتسيير دورياتِ المراقبةِ وفتحِ المجالِ لانتشارِ وحداتٍ من الجيش السوريّ شرق الفرات بعد غياب سنوات، فيما تمركزت قواتٌ روسيّة في قاعدة للقوات الأمريكيّة التي طالها التحجيم أيضاً، وأعلن البيت الأبيض اقتصار دور قواته على حمايةِ آبار النفط ومنع وقوعها بيد داعش أو النظام.

جاءت دعوةُ أردوغان لزيارةِ واشنطن في 13/10/2019 في سياقِ الردّ الأمريكيّ على موسكو لتتجاوزَ جملةَ الخلافاتِ مع أنقرة وتؤكّد علاقاتِ التبادلِ التجاريّ وتعملَ على حلّ الخلافِ حول صفقةِ الصواريخ الروسيّة، فيما جاءتِ المبادرةُ الألمانيّةُ بنشرِ قواتِ مراقبةٍ متعددةِ الجنسياتِ استدراكاً منها لتعويضِ الغيابِ عن ميدانِ السجالِ الدوليّ وفي مواجهةِ التهديدِ التركيّ بضخّ اللاجئين إليها.

ووفق الصورة الحالية اليوم تفرضُ موسكو نفسها قوةً حاضرةً بقوةٍ بالمنطقةِ بعد تحديدِها أدوارَ الأطراف الإقليميّة ودفعها للانكفاءِ، وعزّزت وجودها العسكريّ في سوريا بقاعدة عسكريّة جديدة شمال شرق البلاد، لتكونَ عائقاً مستقبلاً أمام تركيا في إطارِ سياسة التحجيم نفسها.

استغلت موسكو الأزماتِ الأوروبيّة والتي من تجلياتها تقدّمُ قوى اليمين المتطرف بأوروبا وبوادر تصدعِ الناتو، ففرضت إيقاعها في سوريا وحالت دون تشكيلِ تحالفٍ غربيّ ضد النظام السوريّ، وفرضتِ التفاوضَ مع النظام بعدما كان على حسابه في سنوات الأزمة الأولى. وهي تمضي بخطتها باستقطابِ أنقرة والتحوّلِ من محاربة الإرهاب إلى استثماره نظراً للمكاسبِ الأكبر التي تجنيها من أنقرة بإيجاد إطار أوسعٍ لأمنها القوميّ والنظرية الأوراسيّة والتشبيكِ البريّ واستمالة ثاني أكبر قوةٍ بالناتو إلى جانبها بعدما كانت تركيا طيلةَ عقودٍ عنصر الناتو في محاصرتها.