سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ملامح تطور الأوجلانية عن الدروب الماركسيّة

محمد عيسى_

بعد انقضاء ما يقرُب من ثلاثة عقود ونصف على سقوط تجربة الاتحاد السوفيتي ــ الحدث الذي كان بمثابة عنوان على انهيار الشيوعية ــ كنظرية متكاملة وشاملة في تحليل الواقع وتفسير التاريخ وفي تحديد ملامح المستقبل على أساس المصير المشترك المحتم لكل شعوب الأرض وبلدانها بتبني الاشتراكية والشيوعية لاحقاً، “في سياق ما دُعي بالحتمية التاريخية”، لم تهدأ محاولات البحث والمراجعة في أسباب الفشل الذي أصاب التجربة، وفي إيجاد التنظير الذي يعيد إنتاجها باعتبارها النظرية الأصوب حتى تاريخه في معالجة مشاكل التفاوت الطبقي وقضايا الصراع الناتج عنه ضمن خطط تكريس المساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ولأن المسألة تتعلق بمستقبل النظام الاجتماعي الذي سيسوس العالم في لاحق الأيام؛ فيمكن القول إن اتجاهات ثلاث هي من تتناوب على تحديد مسارات تطور الفكر السياسي المتنبئ بماهية ذلك النظام، (أولهم) “فوكوياما” ومن يقول بنظرية نهاية التاريخ وبأن النظام الرأسمالي الحالي هو قَدَر الإنسانية الأخير وهو النظام الأكفأ والأقدر على الاستمرار، ويسوق تبريراته من النجاحات التي حققها نظام الحداثة الرأسمالية في المباراة التاريخية التي كانت قائمة مع التجربة الاشتراكية بقيادة الأحزاب الشيوعية.
(والثاني)؛ نَسَقٌ من المثقفين الماركسيين ما زال متمسكاً بأن الماركسية لم تستنفذ طاقتها بَعدْ ويمكن تجديد صلاحيتها انطلاقاً من فرضيتين؛ إحداها هي أن الفكر الإنساني لم ينتج نظرية تحليلية لطبيعة النظام الرأسمالي وأمراضه وأزماته الموضوعية (أو ما دُعِيَ بـ عفن الرأسمالية) تتجاوز أو ترقى إلى تشخيص الماركسية.
والفرضية الأخرى تقوم على حقيقة أن النظام الرأسمالي العولمي الحالي والفائز بعد الحرب الباردة ما زال مأزوماً بشدة رغم نجاحه بالالتفاف على أزماته على حساب اقتصاديات البلدان الأقل نمواً والواقعة على أطرافه وذلك باستخدام تكتيكات وفعاليات ناجحة عدة في مقدمتها سيطرته على منظمة التجارة العالمية والتحكم في سياسة البنك الدولي ثم اعتماده على الشركات الفوق قومية ((المتعددة الجنسيات)).
على ضوء ذلك؛ لم يفقد المتمسكون بالأيديولوجيا الماركسية الأمل بأن ثورة من نوع الثورة الطبقية العالمية ستنشأ في أطراف النظام الرأسمالي العولمي، وسيكون من شأنها تقويض أو هزيمة نظام الحداثة العولمي الرأسمالي، ويقرأ البعض ملامح بداية هذه الحركة في الأطراف في أنشطة سياسية واقتصادية يمثلها أداء روسيا والصين وسواهما ضمن أنشطة دول مجموعة البريكس.
أما الاتجاه (الثالث) والمختلف جذرياً مع الرؤى السابقة في محاكاة المسألة وفي تفسير تاريخ الحضارة ومشكلات الإنسان والجماعات والدول وفي استنباط طرق الحل لمشاكلها؛ فلا ريب أنه الاتجاه الأوجلاني والطُّرُق الأوجلانية التي تعتمد على محركات بحث مختلفة، فهو ورغم أنه يقر بأن ماركس في كتابه “رأس المال” قد قدَّم أصح تقييم عرفه الفكر الاقتصادي والسياسي لأزمة الرأسمالية “حيث التناقض الصارخ بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج” والذي يفيد بأن التراكم الرأسمالي يستحيل أن يتحقق إلا على قاعدة الاستغلال والظلم. يذهب المفكر عبد الله أوجلان أيضاً إلى وصف اللينينية بأنها الأجدر في وضع قواعد الثورة العالمية، ولينين بأنه منظر فكر الثورة الأول وملهم حركة الجماهير الذي لا يضاهى.
القائد عبد الله أوجلان نفسه يأخذ على التجربة والفلسفة الماركسية بأنها قد انتعشت على إرث الحضارة الرأسمالية واستخدامه في مواجهتها ولم تنجح في إيجاد بدائلها الحضارية. وهنا يتفق في هذه الجزئية مع “تروتسكي” صاحب نظرية “الثورة الدائمة” والذي كان يشكك بإمكانية انتصار الاشتراكية في بلدٍ واحد “يقصد روسيا البلد المتخلّف في بناه الاجتماعية والحضارية وينتمي إلى طائفة بلدان ما قبل الرأسمالية”، فيما أن “لينين” في رده على “تروتسكي” وفي سيرورة الحركة قد أكد بطريقة أخرى على ملاحظة أوجلان بقوله: سيكون من أولى مهام الثورة البلشفية كي تنجح تحقيق منجزات الثورة الديمقراطية البرجوازية، بمعنى حرق المراحل وتوفير البُنى الاقتصادية الاجتماعية للرأسمالية دون المرور بويلاتها، “طبعاً يقصد بتخلّف البنى الاجتماعية والحضارية في تعليق كل من تروتسكي والقائد أوجلان” هو عدم وجود البروليتاريا (الطبقة العاملة) نظراً لعدم وجود صناعة متطورة، فالطبقة العاملة المتشكلة والمؤهلة بعد تحقق وعيها لدورها التاريخي في الثورة ضد مستغليها ــ بحسب الاشتراطات الماركسية ــ وإذا كان هو الواقع الموضوعي الذي كان مخيماً عشيّة الثورة البلشفية؛ يصبح الاستنتاج الأوجلاني الدائر حول تهافت المنتج الحضاري للاشتراكية في مكانه، ولأن الماركسيّة قد قدمت للنظام الرأسمالي خدمة رفيعة لا تُقدر بثمن، وعلى نحو يتصل بما يراه القائد أوجلان اعتواراً عميقاً في المنهج الماركسي في اكتساب الجدارة في مواجهة نظام الحداثة الرأسمالية يتفق مع الخطاب الماركسي حول عفن الرأسمالية، بقوله: إن الحروب طيلة الأربعة عقود الماضية هي من شغل الدولتية القومية الرأسمالية، ثم ينعطف عن طريقه بدرجة حادة حينماً يسجل ملاحظة جوهرية، مفادها، (إن تاريخ الحضارة البشرية المُدوَّن بكليته هو من تأليف الدولتية المدنية المزيف)، متوقفاً في محرك بحثه عند مفهومين، مفهوم المدنية ومفهوم الدولة، ويعرِّف المدنية بأنها أول إدارة جادة من قبل الدولة للمدينة. وأن الدولة أول دولة كانت التعبير عن استخدام السلطة، بمعنى نفوذ القوة ضد المجتمع، وقد توَاقتَ ذلك مع نشوء الهرمية الاجتماعية والجنسانية الذكورية، وإن الدولة في جميع مراحلها في صف يتعارض مع مصالح المجتمع رغم ادعاءاتها الملفقة بعكس ذلك. بمعنى أن الدولة قد نشأت لتكريس هيمنة الطبقة النافذة على مجتمع المدينة وبالتالي فالدولة المدنية كان في طبيعتها البنيوية استخدام العنف والرياء ضد المجتمع وافتعال الحروب.
يصل القائد عبد الله أوجلان إلى تقديم حقيقة المفهوم المرذول للدولة المدنية والتي هي حتماً جنسانية ذكورية وهرمية نشأت في الخمسة آلاف سنة الأخيرة مع بداية العصور السومرية  وسليلتها الأشد دلالة وخطراً ونزوعاً نحو الحرب والاستهتار بالبيئة هي الدولة القومية القائمة في مجموعة دول الحداثة الرأسمالية، وهو في حين يستخلص بدهيته الشهيرة إن الدولة (هي نواة  المدنية)؛ يذهب إلى استنتاجه العظيم والمفتاحي في فهمه لسوسولوجيا المجتمعات والأفراد ومكانة المرأة، القائل: “في نظام المشاعية الأولى “الكلانات” تكمن نواة الحضارة الديمقراطية”، فماذا يعني بذلك وإلامَ ترمي فكرة الحضارة الديمقراطية التي نبتت في رحم المشاعية والتي امتدت حقبتها إلى عشرات ألوف السنين ولم يسجل التاريخ المدون عن ماهيتها أيَّة إضاءة تُذكر؟، ولابد أن البشر خلالها كانوا قد أداروا حياتهم في صيغة مجتمعات ما قبل نشوء المدنية الدولتية، ولم يكن فيها تموضعات هرمية، ولم تعرف الحروب ولم تستخدم الجيوش، وقد حفلت بدور مفصلي للمرأة؛ هي مجتمعات الأخلاق السياسية التي ينضوي المجتمع طوعياً تحت مظلتها وضمن ما يكرسه الزمن من تدابير ولوازم تخدم مصالح المجتمع واستقراره.
فمجتمع الحضارة الديمقراطية هو مجتمع الأخلاق السياسي وهو مجتمع العدالة والكرامة التي هي حق جميع الأفراد وهو الحلم والغاية وهو العلامة أو المؤشر على تكوّن المجتمع ونضجه.
أمَّا كيف نحدد أن هذا المجتمع قد وصل إلى مرحلة المجتمع الديمقراطي الحر أو مجتمع الأخلاق السياسي؛ فيكون ذلك من خلال قياس قدرة ذلك المجتمع على التعبير عن مصالحه وقدرته على انتزاعها، الأمر الذي يفيد بحسب التصور الأوجلاني أن مجتمع الأخلاق السياسي سيكون متاحاً في ظل دولة الحداثة الرأسمالية، أما هل يتعايش معها؛ يجيب المفكر أوجلان على هذا التساؤل (موضوع الفقرة السادسة من بحثه في مجلد، مانفيستو الحضارة الديمقراطية، المعنون “هل يتوافق مجتمع الحضارة الديمقراطية مع نظام دولة العصرانية القومية الرأسمالية”) بالإيجاب، موضحاً وفيما يُعدُّ دليلاً على انتهاج سكة بديلة عن السكة الماركسية التقليدية، سكة تمُرُّ عبر اندماج الدول القومية الرأسمالية الحداثوية في اتحادات كونفدرالية على طريق الخلاص المتدرج من مساوئ الدولتية القومية الرأسمالية الهرمية والجنسانية.