سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مع المبادرة العراقيّة… أنقرة تغلق شركات الحوالات الممولة للإرهاب

بدرخان نوري_

تنبئ الحملة، التي شنّتها سلطاتُ الأمن التركيّ ضد مكاتب الصرافة السوريّة وشركة “الراوي” في تركيا عن متغيّر سياسيّ، وتهدفُ بالوقتِ نفسه إلى التضييق على السوريين ومصادرة مصادر الدخل، وتأتي متزامنة مع مواصلة حملات سلسلة عمليات ترحيل قسريّة إلى الأراضي السوريّة، وكانت هذه المكاتب تعمل لسنوات على مرأى السلطات التركيّة، ولم تحرك ساكناً، وتثير الإجراءات التركيّة في توقيتها التساؤل حول هذا التصرف، بعد أكثر من عقد، فقد كانت هذه الشركات تعمل علناً، وتنقل الأموال عبر الحدود إلى مرتزقة “داعش”.  
حملة أمنية واعتقالات 
في 11/6/2024، أعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، توقيف 107 أشخاص مشتبه بهم، أسسوا 45 شركة “وهميّة”، ولديهم حركة أموال بقيمة ثلاثة مليارات ليرة تركيّة في حساباتهم، وذلك خلال عملية أمنيّة متزامنة في 14 ولاية، أبرزها في إسطنبول وكوجالي، وذكرت مصادر محلية أنَّ العملية طالت سوريين وشركاتهم. وقال يرلي كايا، في تغريدة عبر منصة “إكس”، إنّ بلاده ستقف بالمرصاد ضد الذين يرتكبون عمليات احتيال باستخدام أنظمة المعلومات.
وذكرت وكالة “الأناضول” التركيّة، في 10/6/2024، تنفيذ عمليات أمنية واسعة ضد أشخاص متهمين بتقديم خدمات مصرفية سريّة لمن وصفتهم “إرهابيين” في مناطق النزاعات في سوريا.
وقالت مصادر أمنية تركية، الاثنين 10/6/2024، إن فرق شعبة الإرهاب في مديرية أمن إسطنبول، نظمت عمليات متزامنة استهدفت شركات وأماكن عمل في 27 عنواناً في سبعة أحياء في إسطنبول، بعد التأكد من قيامهم بعمليات تحويل أموال، وتقديم خدمات مصرفيّة سريّة لإرهابيين في معسكرات “داعش” في مناطق الصراع في سوريا. والتهم المتعلقة بهذه المكاتب: ارتباطها بتمويل الإرهاب عبر الحوالات وارتباطها بشبكات التأمين الخاصة بالمهربين والهجرة غير الشرعية (التهريب).
ووجهت الاتهامات إلى المدعو “عبد الرحمن الراوي”، صاحب إحدى أكبر شركات الحوالات الماليّة، بتسهيل تحويل الأموال إلى مناطق في سوريا من أوروبا وتركيا بغرض دعم الإرهاب. وقامت السلطات بتجميد الأرصدة المودعة لدى شركة الراوي، والتي تُقدّر بملايين الدولارات، ومصادرتها. ومن شأن هذا الإجراء التسبب بمشكلة كبيرة بتحويل الأموال من أوروبا وتركيا إلى مناطق سوريّة، حيث ترتبط غالبيّة الشركات التجاريّة ومكاتب الحوالات بشركة الراوي. وسيواجه التحويل الماليّ صعوبات كبيرة. والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تعتقل فيها تركيا “الراوي”، فقد سبق واعتقلته عام 2020 بسبب عدم تعاونه مع “بنك زراعات” التركيّ لتبرير المبالغ، التي كان يقوم بتحويلها، لكنها أُفرجت عنه لاحقاً وواصل نشاطه.
ونتيجة مداهمة مكاتب الصرافة والتحويل في إسطنبول (الفاتح – أكسراي) التابعة لشركة الراوي بتهمة تمويل الإرهاب، خسرت جماعة الشرقية (الشحيل) التابعة لمرتزقة هيئة تحرير الشام ملايين الدولارات، التي كانت تُشغّل عند الراوي، والخسارة ليس الأولى إذ تفيد معلومات أنّ المدعو “أبو محمد الجولاني” سبق أن فقد مبلغ 50 مليون دولار، مع المدعو “مهند المصريّ” في دولة الإمارات العربية.
وتُقدر الأرصدة المجمدة بنحو 100 مليون دولار، وقد لحقت خسائر كبيرة بالصرافين السوريين جراء هذه الإجراءات، ويُضاف إلى ذلك، أنّه لن يتمكن أحد من تحويل الأموال من تركيا إلى أقاربه في المناطق المحتلة شمالي سوريا عبر فروع شركة PTT التركيّة.
وذكرت المصادر أنّه بينما تمّ التدقيق في جميع أنشطة العديد من الشركات ضمن نطاق “تمويل الإرهاب” بقرار من النيابة العامة، تم تجميد أصول شركتي «إي المحدودة للنقل» و«جي للاستيراد والتصدير»، وتبيّن أن أصحاب ومديري الشركات، التي تم رصدها ومتابعتها لديهم اتصال مباشر أو غير مباشر مع قيادات في صفوف “داعش”. كما تبين أنّ الأموال التي تمّ جمعها من مكاتب الصرافة وشركات الاستيراد والتصدير وشركات النقل، باسم “الأنشطة التجارية”، تم تحويلها إلى معسكرات مرتزقة “داعش” في سوريا، وتم التواصل برسائل مشفرة.
واصلت السلطات الأمنية التركية اعتقال ما يطلق عليه “بترون” الحوالات في تركيا، ووريث إمبراطورية “داعش” المالية عبد الرحمن الراوي صاحب شركة (غرنتي للذهب والاستيراد والتصدير)، لليوم الرابع على التوالي، فيما أطلقت سراح محاسبه، وكذلك سراح مدير شركة مسار (الحبوش للحوالات والصرافة) محمد حبوش وعدداً من معاونيه وموظفيه. لكن؛ السلطات التركية أفرجت عن محاسب الراوي الاثنين، إضافة لمدير شركة الحبوش للحوالات والصرافة ومعاونيه، فيما أبقت على عبد الرحمن الراوي قيد الاعتقال.
التوقيت يثير السؤال 
شركة الراوي للحوالات الماليّة تقوم بنشاطاتها الواسعة على مدى سنوات، وهو ما لا يمكن إخفاؤه عن السلطات الأمنيّة التركيّة، وتم اعتقاله مرة وأخلي سبيله، وهذا التأخير باعتقال الراوي من السلطات التركية يثير تساؤلات حول مدى تسامح تركيا تجاه قيادات وممولي مرتزقة “داعش” الإرهابيّ، ولهذا وصف المراقبون الإجراء التركيّ، أنّه انقلاب مفاجئ على شركائها.
الإجراءات التركية أثارت الكثير من التساؤلات حول وجود هذه الشركات، ومواصلة عملها في تركيا رغم تعرضها لعقوبات أمريكيّة منذ سنوات بتهمة دعم الإرهاب. واتهمت تقارير إعلاميّة السلطات التركيّة بدعم وتمويل المجموعات المتطرفة، والإرهابيّة في سوريا بما فيها مرتزقة “داعش”.
وفي حادث سابق متصل بالعاملين في قطاع الحوالات ما جرى للمدعو “ماهر الدغيم” الذي تم تسليمه لحكومة دمشق، بعدما اعتقل في الدوحة في 28/5/2023. وكانت قد رحّلته السلطات التركيّة فيما كانت عائداً من البرازيل، التي رفضت إدخاله إلى البلاد، وكان “الدغيم” يعمل في مجال الصرافة وتحويل الأموال في تركيا. وقد منعته قطر من الدخول، وسحبت السلطات التركيّة الجنسية منه وألغت قيود جواز سفره التركيّ.
في حزيران 2023، استدعت السلطات التركيّة العديد من أصحاب شركات الصرافة، التي يملكها سوريون في عدد من المدن التركية وحققت معهم في الأصول التي يمتلكها المدعو “الجولاني” ضمن تلك الشركات. وتبيّن أنّ تلك الشركات لها فروع منتشرة داخل إدلب، وجاءت الخطوة التركية في إطار الضغط على الجولاني لوقف ممارساته ضد مجموعات المرتزقة التي تدعمها تركيا في المناطق المحتلة.
ويمتلك الجولاني استثمارات كبيرة في مدن تركية، ومنها إزمير وإسطنبول وأنقرة، حيث تتنوع بين منشآت سياحية وأخرى صناعية تبلغ قيمتها أكثر من 100 مليون دولار، والتي تؤمن له تمويلاً خاصاً لتنظيمه إلى جانب احتكاره الاقتصاد، وفرض المزيد من الضرائب ضمن مناطق نفوذه، ويسيطر أبو محمد الجولاني على كامل مفاصل الحركة الاقتصادية في إدلب، بدءاً بفرض الضرائب على كل الفعاليات الاقتصادية الصغيرة والكبيرة، وصولاً إلى احتكار استيراد المواد، التي تستخدم في عمليات التجميل وفتح المراكز المخصصة لها. لكن؛ الإجراءات التركيّة تتزامن مع المبادرة، التي أطلقها رئيس الحكومة العراقيّة في 31/5/2024، أنّ حكومته تعملُ على المصالحة بين أنقرة ودمشق. وقال السودانيّ: “إن شاء الله، سنرى بعض الخطوات في هذا الصدد قريباً”، مضيفاً أنّه على اتصال مع الجانبين بهذا الشأن. وبصرف النظر عن نجاح المسعى العراقيّ، إلا أنّ توافق توقيت الإجراء التركيّ معه له دلالته، وعمليّاً لن تخسر أنقرة من عوائده، فهي ستتصالح على حساب الأدوات نفسها، التي مارست بها العداوة.  
إمبراطورية ماليّة 
هزّت حادثة الاعتقال الأوساط الماليّة والعاملين في قطاع نقل الأموال، إذ يُقدّر حجم الأموال المودعة لدى شركة “الراوي” نحو 520 مليون دولار أمريكيّ، ما سبب مشكلة كبيرة في تحويل الأموال من أوروبا وتركيا إلى شمال سوريا، وترتبط غالبية الشركات التجارية، ومكاتب الحوالات في الشمال السوري بشركة الراوي ومعها اثنتان من الشركات الأخرى. إغلاق الشركة سيؤدي إلى أزمة مالية في العديد في مناطق سيطرة المرتزقة داخل سوريا “المناطق المحتلة”. ويُقدر حجم الكتلة الماليّة، التي تتعامل بها شركة “الراوي” في تركيا ومختلف مناطق سوريا، التي تحتلها تركيا وإدلب بنحو مليار ومائتي مليون دولار.
ويقوم عمله على نظام الإيداع مقابل تسليم أموال في أيّ دولة في العالم دون أيّ رسوم، ويستثمر “الراوي” في الأموال المودعة لديه في قطاع العقارات. وحسب مصادر إعلاميّة تقدّر حركة الأموال اليومية بنحو مليون دولار أمريكيّ.
“فواز الراوي” شقيق عبد الرحمن، كان مسؤول الماليّة وتوزيع الرواتب لمرتزقة “داعش”، وفي 23/6/2017، كشفت مصادر متابعة للجهود العالمية المبذولة لمكافحة تمويل التنظيمات الإرهابية، تصفية فواز محمد جبير الراوي باستهداف سيارته على الطريق بين البوكمال ومدينة القائم، ليكون ذلك إعلاناً عن المعركة الماليّة ضد “مرتزقة داعش”. واختير عبد الرحمن وشريكه في العمل، وابن عمه عمر لإدارة الشؤون الماليّة. وبعد المعارك ضد الإرهاب وتحرير قوات سوريا الديمقراطية للمنطقة وهزيمة “داعش”، هرب “الراوي” إلى تركيا أواخر 2017. ودخل في علاقةٍ تجاريّةٍ سريّةٍ مع شخصٍ مقيم في تركيا متخصص بإجراء تحويلات كبيرة من شركة الحوالات، بما فيها الأموال المُخصصة لمرتزقة “داعش” وسهّل هذا الشخص تحويل مبلغ 250 ألف دولار إلى “عبد الرحمن”. وأسس شركة للحوالات في تركيا في أيلول 2018 بالاشتراك مع شخصين عراقيين. وبسبب هذه الأنشطة الماليّة المشبوهة أدرجت وزارة الخزانة “الراوي” العقوبات السارية وفقاً للأمر التنفيذي رقم 13224 في 15 نيسان 2019.
وسبق أن أدرجتِ السعودية عبد الرحمن علي حسين الأحمد الراوي في قائمة العقوبات بسبب تسهيلات ماليّة لمرتزقة “داعش”، في 16/7/2020. وذلك ضمن لائحة تضم ستة كيانات وشخصيات بارزة. ونقلت وكالة الأنباء السعودية أنّ “الراوي”، اسمٌ بارزٌ في تقديم تسهيلات مالية لصالح مرتزقة “داعش”.
قبل اعتقاله في تموز 2021، أنشأ عبد الرحمن علي الأحمد الراوي قنوات ماليّة في أنحاء من روسيا وأوروبا والصين وأفريقيا لتحويل أموال “داعش”، وتوليد إيرادات إضافيّة من “داعش”. وعمل الراوي مع “شام إكسبريس”، لكن تركيا قامت باعتقال عبد الرحمن الراوي، وصادرت 50 مليون دولار فقط من أصول الشركة. وهناك ما يقارب 380 مليون دولار أخرى من أموال الشركة موجودة لدى شركات الصرافة والتجار ومكاتب أخرى لا يعلم بها سوى “عبد الرحمن الراوي” نفسه.
بالمطلق كانت السلطات التركيّة قادرة منذ سنوات طويلة على وضع حدٍّ للتمويلات لصالح “الإرهاب”، ولكنها اتبعت سياسة تشبه سياسة الحدود المفتوحة أمام المرتزقة للقدوم من مختلف أنحاء العالم ودخول سوريا، لكنها جعلت المسألة رهن التجاذبات السياسيّة. وشركة “الراوي” مجرد عنوان، فيما هناك شبكة معقدة تعمل في مجال تمويل “الإرهاب” وغسيل الأموال، وتتخذ من الأراضي التركيّة مجالاً حيوياً لنشاطها.