سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مسألة العنف ضد المرأة بمجتمعاتنا؛ اجتماعية أم سياسيّة؟

روناهي/ منبج- تحرّر المرأة مسألة فكرية يلزمها الكثير من النضال والمقاومة والمقارنة بين المجتمع في الشمال والشرق السوري بغيره من المجتمعات لإثبات صحة ذلك وهذا يدعونا للتساؤل هل مسألة العنف ضد المرأة اجتماعية أم سياسيّة؟
 ما حدث منذ بضعة أيام؛ بمقتل الشابة السعودية “ندى القحطاني” بمدينة الدمام على يد شقيقها، أثار جدلاً كبيراً في السعودية، ودعوات كثيرة للتصدي للعنف ضد النساء في السعودية، باعتبار أن هذه الحادثة تعيد الأذهان إلى فضاضة المجتمع الذكوري السعودي على الرغم أن هناك سعياً من الحكومة السعودية؛ لتنفيذ عدة إصلاحات عبر سن تشريعات مختلفة، تضمن معها تقدم المرأة فكرياً؛ كتشريع السماح للمرأة بقيادة السيارة، إلا أن حادثة مقتل “ندى القحطاني” أعاد العصا إلى سيرتها الأولى.
لا ينتابنا شكّ أبداً أن ما تتعرض له المرأة حالياً من اضطهاد وعنف لا مثيل له تاريخياً، يعد من أكبر الكوارث البشرية على الإطلاق ليس لأن المرأة تمثل دوماً دور الضحية طيلة تاريخ البشرية، وإنما لأنها لم تستطع حتى هذه اللحظة امتلاك قدرة على سحق جميع أنواع العنف ودرئه عن نفسها لا سيما العنف الجسدي الذي انتهت به  حياة بطلة هذه الحادثة “ندى القحطاني” إلى قتلها؛ نتيجة فرض هيمنة القيم الذكوريّة على يد شقيقها طبعاً وبرضى أهلها، بحيث لا زالت هذه الحادثة، تمثل ثقافة معظم المجتمعات الإنسانيّة عموماً والمجتمع الشرق الأوسطي على وجه الخصوص.
وتفاصيل الحادثة كما روتها صديقة “ندى القحطاني”، إن شقيقها يتعاطى حبوباً مخدرة ومعروف بسوء السمعة، وكان قد هددها قبل صعودها إلى السيارة مع صديقتها، لكنها لم تستجب، فلاحقها وأطلق النار على جميع من كانوا معها، والدافع إلى مقتلها؛ كما أُشيع “الشرف”، أي ببساطة شديدة؛ لأنها تقدمت خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو تعلمها الدراسي لثلاث لغات عالمية مختلفة في الجامعة.
عنف القانون وعنف المجتمع!
إذا تمعنا بتمدن المجتمعات في هذا القرن، وبما حفلت به من تطور وإنجازات علمية لا يمكن حصرها في هذا المقام، وإن كان النصيب الأكبر من هذه الإنجازات، مرده صناعوية المجتمع الغربي على العموم بينما بقيت المجتمعات في الشرق الأوسط؛ رهينة استيراد الفكر الإصلاحي من الخارج. ولا نريد إعادة عجلة التاريخ قليلاً للوراء، وبداية تشكل المملكة السعودية، فهذا ليس مضمار حديثنا، وإنما ما يهم النظر إلى القاعدة الأبوية التي على أساسها تشكل نظام الحكم، ووضع المرأة اجتماعياً وقانونياً تحت فكي كماشة القانون والمجتمع، فلا المجتمع تحرر من الانفجار الذكوري الكائن على فكر المرأة، فحرمها من أبسط حقوقها من الحياة والوجود إلى حرمانها تلقي العلم والتعليم؛ كما حدث بمقتل “ندى القحطاني” التي وجِدت صريعة تحت مسألة دوافع الشرف وقيم بطولة المجتمع الذكوري الجائرة بحق المرأة. ولا انتصرت المرأة لنفسها واستطاعت المطالبة بالمساواة مع الرجل، بمختلف ميادين العمل والمجتمع وحتى على مستوى الأسري الذي بقيت به ممنوعة من الخروج تحت طائلة مخالفة شعائر القبيلة وحكم العصبية القبلية السائد. والغريب بالمجتمع السعودي، أنه لا يزال غريباً عن الواقع الذي نعيش به على الرغم من أنه يتجه للعولمة التقنية بمؤسساته وإداراته، غير أن ذلك، يضع علامات استفهام؛ تجاه غياب أي مؤسسة إدارية للمرأة، تحقق لها مرجعية، وتضمن حقوقها اجتماعياً ومؤسساتياً، وتؤمّن لها كل قراراتها وتشريعاتها التي من شأنها ضمان مشاركتها بالحياة السياسية والاجتماعية، وبالتالي تمكين نقاط القوة وتثبيط نقاط الضعف. دولة الإمارات التي تعتبر جارة للملكة السعودية حدودياً قد خرجت بنسبة أقل من ذلك الحيف، حيث اتجهت إلى قوننة تشريعات تكون أكثر تسامحاً تجاه المرأة منها عند المملكة السعودية. ومن وجهٍ آخر، تحرّرت المرأة من وطأة ثقل القيود الذكوريّة إدارياً غير أنها لا تزال ترزح فيها؛ تحت قبة المجتمع الذكوريّ. وإذا بحثنا في المشكلة وحيثياتها، فببساطة تتجلى بعدم قدرة المرأة على قراءة تاريخها، وانفصام المرأة نضالياً وعدم تحديها للقيم الذكورية الأمر الذي فسح المجال لفرضها عليها دون تحدّ منها وعدم رغبتها في إثبات جدارتها بكل المجالات، وكسر أنظمة القوانين والأعراف الاجتماعية من قبل رأس الهرم بالدولة، مما يؤثر على شرائح المجتمع عموماً. وبالمحصلة فإن ذلك، إن لم يتحقق بالمجتمع السعودي وغيره من المجتمعات واتخاذها عدداً من القرارات الملموسة في تمكين المرأة مجتمعياً وقانونياً وتحديداً في العلاقات جنسوياً وارتقاءها إلى مستوى متمدن حضاري يليق بعراقة المرأة تاريخياً، فإن حادثة “ندى القحطاني” ستكون ماثلة أمام أعين أي امرأة وغشاوة سوداوية تمنع من تقدمها وترسيخ وجودها.
حينَ يصبحُ التمركز الذاتي مرضاً..
في الأحوال جميعاً، ثمة حاجة علمية إلى تحييد العوامل الدينية والروحية من مجال تفسير هذه  الحادثة ومثيلاتها من الظواهر الاجتماعية، من أجل بناء فهم وإدراك صحيحين، أو أكثر صحة للظاهرة المدروسة. وهكذا، إذا رجعنا تاريخياً لوضع المرأة إلى ما قبل ميلاد المسيح وبداية الهجرات شمالاً وجنوباً، فإن المرأة كانت تتمتع بقداسة إلهية كبيرة، ويأتي ذلك من خلال إدراكها لضرورات المجتمع في أثينا أو روما. وبغض النظر، فقد مثلت المثيولوجية التي تعتبر حكايات لشعب من الشعوب وصورة نمطية عن مجتمع ما، بكثير من التبجيل والاحترام للمرأة؛ مثل؛ ” أفروديت هيرا”. ولسنا بصدد البحث في جزئيات الصغيرة في العلاقات الإنثروبولوجية، غير أنه من الواضح في مجتمع الإغريق أو الرومان أنهما نحتا قصصياً في المحاكاة والأساليب عن ملاحم الشرق لا سيما في منطقة” ميزبوتامبيا” و” أورك” الذي مثلت حكاية “أنانا وأنكي” بطولته التشاركية. ومهما يكن، فالمرأة في هذه المنطقة، أي ميزبوتامبيا تجد لها ما يعزز لها من أرثها العريق ما يوطد لها حالياً من فهم الواقع استناداً لذلك الموروث التاريخي الكبير. بينما المرأة في المجتمع السعودي لا تزال تعيش إرهاصات النكوص والانكماش في الوعي والفكر الإنسانيين التي سادت خلال العقود الأخيرة، بسبب تغليفها بكثير من التفسيرات وانبعاث الأفكار والنزعات الفكرية المحافظة، واستباحتها مجالات المعرفة كافة. أما النقطة الأهم، فإن المرأة السعودية خرجت من المائدة الاجتماعية قانونياً واجتماعياً خالية الوفاض دون تحقيق المرجو من طاقاتها وإبداعها وعادت “بخفي حنين” إلى ظاهرة وأد البنات مقابل تمركز المجتمع ذكورياً ذاتياً، وإن تعددت مظاهره، بنهاية المطاف، فإنه قاد إلى مقتل الشابة “ندى القحطاني”.
المصلحة وتوازن المصالح
إن أشد ثقلاً على كاهل المرأة، هو عدم قدرة المجتمعات على البدء بصيرورة إيديولوجية فكرية متوازنة وعدم العمل على البحث عن البدائل الديمقراطية؛ بخلاف النموذج الغث الرديء الذي عتى عليه الزمن، وغدا مستهلكاً زائلاً، وتحتاج إلى تروً حتى يرجى معه استبداله مع مرور الوقت، فإنها تبلى كما تبلى الثياب، ولذا فلا نستغرب مثلاً حادثة مقتل “ندى القحطاني” نتيجة فرض رؤية اجتماعية واحدة للمجتمع السعودي، وعدم الانفلات من كبوة نصوص الأحكام المتعلقة بالمرأة وحقوقها، التي كبلتها تحت اصطلاح “الشرف” فلا تقوى المرأة على التحرر من تأثير قبْلياته الذكوريّة، ولا مناص لها من أن يكرس أرجحية الرجل ويرسخ دونية المرأة. فلا هو يؤمن لها مصلحة في وجودها وكرامتها، ولا استطاع المجتمع أن يؤمن لها المصالح أن تكون قادرة على لعب دور أكبر وريادي، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية. هذا الصراع ليس مجرّداً من تأثيرات المصالح والأهداف للبقاء في السلطة أكثر، وبكلمة، هو صراع أصولي تاريخي قديم متمدد مترسخ ومتجذر ومنغمس اجتماعياً بأبعادها كافة، وهكذا تعود إشكالية مقتل الشابة “ندى القحطاني” إلى جذر المسألة الذي انطلقت منها، وهي؛ إنّ مسألة المرأة، في المجتمع السعودي،  كما في العالم، بخلاف مناطق الإدارة الذاتية،  مسألةٌ اجتماعيّةٌ – سياسيّة في المقام الأوّل.
المرأة بشمال وشرقي سوريا إنموذجاً
حين انطلقت “ثورة المرأة في روج آفا والشمال السوري” في 19 تموز، ركزت في منطلقاتها النظرية الفكرية أن تكون المرأة أحد ركني الثورة، أي بمعنى ليس مشروطاً تأخيرها كركن ثان، أو حتى كونها ركن أول لأن منظور الثورة أعمق فكرياً من هذا بكثير، فهي تؤمن بالحياة التشاركية، على أن يقوم كلا الجنسين بالواجبات الملقاة على عاتقهما دون النظر إلى الألقاب أو المكانة، فبهذه النظرة العميقة، يمكن القول أن لا خلاص من أمراض المجتمع إلا بتحرر المرأة، وهي تستلهم نضالها من رموزها” ساكينة جانسيز، آرين كوباني، وغيرهن”.
إن أبرز ما أنتجته “ثورة روج آفا”، تفسيرها لواقع المرأة تفسيراً تاريخياً مادياً ديالكتيكياً؛ بفضل قراءات الفيلسوف والمفكر “عبد الله أوجلان” الذي تمكن من تفسير التحرر الجنسوي للمرأة والتدليل على أهم العقبات التي تقف في طريق مشاركتها السياسية والاجتماعية، وإبداء ما هو مناسب لها ولمجتمعها بكل مقاساته وألوانه وأطيافه، إضافةً لذلك، فقد تمكن من نقد الظواهر السلبية بشخصية المرأة انتقاداً سليماً باعتباره العامل الذي يثري نقاط الضعف ويقوّم  قدراتها بالاتجاه الصحيح. وبناء على هذه القواعد المتينة، انطلقت المرأة بشمال وشرقي سوريا نحو تمكين نفسها بالدرجة الأولى، وانخراطها في كافة مستويات النضال مدفوعة بالقيم النضالية للمشروع الديمقراطي بما يحققه لها لأول مرة من كرامة وشرف، ليس كما حدث مع “هدى القحطاني”، من تذليل “الشرف”، فقط لسبب واحد، أنها آمنت بقدراتها وطموحها في تبوء المناصب السياسية والاجتماعية ومنافسة الرجل ومعرفة دورها الحضاري الكبير عن كثب. فرأين في كل أدوار الحياة موجودة، وبكل مكان، فهي الأولى في الدفاع عن مناطق وطنها، وهي الأولى في التعليم، وهي الأولى في الانخراط بالحياة السياسية بكل معانيها. والسؤال المطروح ما أنتجته “ثورة روج آفا” خلال فترة قصيرة جاوز بقيمه الفكرية ما أنتجه المجتمع السعودي وغيره من المجتمعات من عنف طوال عقود من التطور، ولعل الإجابة عن كيفية مقتل “ندى القحطاني” وهيئتها، تدلل عليه أطوار المرأة في شمال وشرقي سوريا، بما أنجزته من قيم ونضال كبيرين، وجديراً بكل المجتمعات بكل فخر، أن تتدارسه بكل ما فيه من فكر وحرية حقيقية مطلقة.