سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مدينة (تل تل) “تتل – توتول” مدينة “المطلة” ـ2ـ

محمد العزو_

كانت مساكن المدينة تلتصق مباشرة في الداخل، وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن أحد هذه المساكن، وفي عهد “يحدون ليم” تم بناء سور جديد للمدينة، نتيجة للتوسع الملحوظ وكثرة مباني المدينة، وقد بني السور الجديد خلف أنقاض السور القديم، وبني هذا السور من مادة اللبن المجفف، لكن سماكته لم تتجاوز أربعة أمتار، وتجدر الإشارة، هنا أنَّ المنقبين لم يعثروا على أي باب من أبواب المدينة في مواسم التنقيب الأولى، إلاَّ أنَّ وجود وادٍ كبير في الجهة الغربية، كان يشير إلى احتمال وجود شارع قديم، ينطلق من الباب الغربي في الضلع الغربي لسور المدينة، ويتجه نحو ساحة المدينة الواقعة عند الأطراف الشمالية الغربية للتلة المركزية. كانت البيوت تتراص على السور الجديد من الداخل، وبالمقارنة مع البيوت القديمة، التي تسبقها بأربعمائة عام، كان لها نمط مميز، وأكثر سعة من سابقاتها، فكان نمط المسكن السائد، كما هو الحال في أيامنا هذه، الغرف تطل على الباحة أو الفسحة السماوية “الحوش”، حيث توجد الأرضيات المبلطة، وتقوم عليها تنانير الخبز، ومخازن الحبوب، على شكل جرار فخارية كبيرة جداً، وكانت هذه الجرار مثقوبة من الأسفل، ومسدودة بمادة الكلس لامتصاص الرطوبة، وكانت هناك أوانٍ أخرى، خاصة بطبخ الطعام وأخرى خاصة بالشرب.. ومن المكتشفات الأخرى نشير هنا إلى الدمى الطينية التي تمثل أشكالاً بشرية أغلبها نسائية، كانت تستخدم لأغراض السحر، أما الدمى التي هي على شكل هيئات حيوانية وتلك التي تمثل عربات مزودة بعجلات، فلا بد أنها كانت لعباً للأطفال.. كان متحف “الرقة” قبل نهبه في عام /2013/م يزخر بمعروضات كثيرة تم العثور عليها في تل “البيعة” الأثري” تتل”. كان أهل “تتل” يدفنون موتاهم تحت أرضيات البيوت، أو في مقابر خارج المدينة، وكان يرافق الموتى في رحيلهم الأبدي إلى الآخرة مجموعة من العطايا الجنائزية، كالأواني الفخارية والأدوات، والحلي والخرز، والذهب هذا إنْ كان الراحل ثرياً. أما إن كان فقيراً فالعطايا هي الأخرى فقيرة، ومدينة مثل مدينة “تتل” لابد وأنها كانت تحتوي على عدد كبير من المعابد لمختلف الآلهة، وقد عثرت البعثة المنقبة على واحدٍ من هذه المعابد، في حي مكتظ بدور السكن في المنطقة الواقعة غربي التلة المركزية، ويأخذ هذا المعبد شكلاً مستطيلاً له صالة طولها عشرة أمتار، ومزود بمحراب يقع في الضلع القصير الخلفي للمعبد، ويخترق الضلع القصير الأمامي للمعبد باب تتقدمه ردهة مفتوحة نحو الخارج، وهذا المعبد من طراز المعابد “السورية” التي تسمى بـ “ذي الردهة الأمامية”، حيث نجد له مثيلاً في كل من “إيبلا” “الممباقة” “إيكالتا” و”إيمار” “مسكنة” على “الفرات” الأوسط، وفي تل “خويرة” شمال شرق مدينة “الرقة”. عثر المنقبون أيضا على معالم قصر يرقى إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، يشبه في طرازه وفي تصميمه المعماري شكل القصر الملكي في مملكة “ماري”، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ هذا القصر أصغر حجماً من قصر “ماري”، فهو يمتد لمسافة /42/م من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب مسافة /25/م، بنيت أساسات هذا القصر على عمق معين في الأرض، حيث تم ردم حُفر هذه الأساسات بالطين، ومن ثم تمَّ فرشها بالحصى وقليلاً من الرمل لمعالجة الرطوبة، ومن ثم تم بناء الجدران، كانت جميع جدر القصر معززة من الخارج وفي الزوايا بعضادات بارزة إلى الخلف..
للقصر صالة مستطيلة الشكل أبعادها /25×10/م مزودة في جهتها الجنوبية بباب عريض يفضي إلى غرفة تشبه “قدس الأقداس” في معابد بلاد النهرين “البابلية”، وفي الجهة الشمالية يتقدم الصالة قاعة مستطيلة الشكل أصغر حجماً، تبلغ أبعادها /5 ،18×4،60/م تحف بها من الداخل من الجانبين، مصاطب من اللبن مخصصة للجلوس، ومطلية بمادة الطين الناعم، وفي الضلع الخلفي القصير توجد مصطبة أعرض من المصطبتين الجانبيتين، وهي الأخرى مثل مثيلاتها السابقتين مبنية من مادة اللبن، ومطلية بالطين الناعم، ومخصصة للجلوس، وهي متصلة بسدة جلوس مربعة الشكل قد تكون مخصصة لجلوس الملك أو الحاكم، الذي كان يلج إلى السدة عبر باب يربط الصالة الكبرى مع القاعة الشمالية، وقد تكون القاعة الشمالية المزودة بمصاطب الجلوس هي أشبه بغرفة الشورى، وقد نجد مثيلاً لمصاطب الجلوس هذه في تل “خويرة”.
لم يدم هذا القصر طويلاً، إذ أنه أهمل وهجر حتى خرب، ولذلك لم يعثر المنقبون في داخله على موجودات تساعد العلماء على تحديد تاريخ بنائه، كما عثر في “تتل” أيضاً على مجموعة كبيرة من الرقم المسمارية، وكذلك على مجموعة من الحلي والمجوهرات الذهبية، وأشكال مختلفة من طبعات الأختام، والأختام الاسطوانية..
يذكر إن “تتل” كانت في الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، تتحكم بمرور السفن القادمة من الأناضول مروراً بـ”كركميش” “جرابلس” و”إيمار” “مسكنة” حتى “ماري” على “الفرات” الأدنى، مما درَّ عليها الكثير من الأموال والبضائع، ونشط العمل التجاري داخل المدينة، كما أنَّ موقعها عند التقاء “الفرات” برافده “البليخ” جعل سكانها يمارسون النشاط الزراعي والرعوي.. وعلى ما يبدو أنَّ المدينة قد هوجمت ودمرت بعد عام/1450/ ق.م، وهي الفترة الزمنية التي ظهر فيها الملك الآشوري “أشور أوبك الأول”، حيث تفيد كتابات تل “العمارنة”، أنَّ هذه الفترة مليئة بالأحداث الجسام في الشمال والشمال الشرقي من سورية، نتيجة لتنامي القوة الآشورية على مسرح الأحداث، حيث بدأت المنازعات والمصادمات بينها وبين الميتانيين والكاشيين حول منطقة الجزيرة السورية العليا وأعالي الفرات، وكانت النتيجة أن تفوقت القوة الآشورية. وبعد عام/1300-1250/ ق.م قبل الميلاد هجر السكان مدينتهم “توتول” نتيجة حدوث عوامل عميقة، حيث اختفت المدن السورية الشمالية ومنها مدينة “تتل”، ويبدو أنها أصبحت تابعة للحكم الآرامي في زمن المدعو “أذد ـ أبال ـ أدينيا”، وهو رجل آرامي حكم مدينة “بابل” في منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد. في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مدن الشمال السوري ظهر بعض التأثير فيها، مثل استخدامهم العربات أثناء الحروب، وحذاقتهم في تربية الخيول الأصيلة، مما جعل منهم قوة سياسية لا يستهان بها، إذ أوكلت إليهم خفارة قبيلتين آراميتين إلى منطقة وادي حوض “البليخ”، هما “رحقو” و”ريقو”، ونزلتا بالقرب من “تتل”، وفي رأي المستشرق الغربي “هونيغمان” أن “الرقة” أخذت اسمها من هاتين القبيلتين، ومنذ ذلك الحين أصبحت “تتل” تدعى بـ “الرقة” لغلبة قبيلة “ريقو” عليها.
المراجع:
1- الندوة الدولية لآثار وتاريخ “الرقة”، مجموعة من الباحثين، “دمشق” /1981/.
2- مجموعة التقارير العلمية للبعثة المنقبة متحف “الرقة”، والمتحف الوطني بـ “دمشق”.
3 – الآثار السورية، مجموعة أبحاث أثرية تاريخية. تأليف عدد من الاختصاصيين بالآثار السورية. ترجمة الدكتور: نايف بللوز.